گروه نرم افزاری آسمان

صفحه اصلی
کتابخانه
جلد دهم
سورة الجن ..... ص: 144







اشارة
مکیۀ فی قول قتادة و ابن عباس و الضحاك و غیرهم و هی ثمان و عشرون آیۀ لیس فیها اختلاف. قال الحسن: نزلت هذه السورة
و کان یقول بعث اللَّه « إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً » فقرأها رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله علی نفر من الجن فآمنوا به فأتوا قومهم فقالوا
محمداً إلی الجن و الانس و قال غیره من المفسرین: لما رمیت الشیاطین بالشهب و منعوا من صعود السماء، قال لهم إبلیس ما هذا
صفحۀ 83 من 233
الحادث؟ فبث شیاطینه فی الأرض فبعث قوماً من جن الیمن فلقوا النبی صلی اللَّه علیه و آله بمکۀ یصلی بأصحابه و یقرأ القرآن
فأعجبهم ذلک و آمنوا به، و أخبروا قومهم فقال إبلیس لهذا رجمتم.
[سورة الجن ( 72 ): الآیات 1 الی 10 ] ..... ص: 144
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ( 1) یَهْدِي إِلَی الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ( 2) وَ أَنَّهُ تَعالی
( جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَۀً وَ لا وَلَداً ( 3) وَ أَنَّهُ کانَ یَقُولُ سَفِیهُنا عَلَی اللَّهِ شَطَطاً ( 4
وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَی اللَّهِ کَذِباً ( 5) وَ أَنَّهُ کانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ یَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ( 6) وَ أَنَّهُمْ
ظَنُّوا کَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ یَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( 7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِیداً وَ شُهُباً ( 8) وَ أَنَّا کُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ
( فَمَنْ یَسْتَمِعِ الْآنَ یَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ( 9
( وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِیدَ بِمَنْ فِی الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ( 10
ص: 145
عشر آیات.
و «1» ( قال الفراء: قرأ حوبۀ بن عابد (قل أحی إلی) أراد وحی الی مثل وعد فقلبت الواو همزة، کما قلبها فی قوله (وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
أصله وقتت.
و العرب تقول: وحیت الیه، و أوحیت بمعنی واحد و ومأت الیه و أومات، قال الراجز:
«2» وحی لها القرار فاستقرت
و قرأ ابن کثیر و ابو عمرو (قل أوحی الی أنه استمع) و (أن لو استقاموا) (و أن المساجد للَّه) و (أنه لما قام عبد اللَّه) أربعۀ أحرف-
بفتح الالف- و الباقی من أول السورة الی هاهنا بکسر الالف. و قرأ نافع و عاصم فی روایۀ أبی بکر کذلک، إلا قوله (و انه لما قام
عبد اللَّه) فانه قرأ بالکسر. الباقون بفتح جمیع ذلک إلا ما جاء بعد (قول) او (فاء جزاء) فإنهم یکسرونه. من فتح جمیع ذلک جعله
عطفاً علی (أوحی إلی انه) و أنه. و من کسر عطف علی قوله (إنا) و إنا. قال
__________________________________________________
1) سورة 77 المرسلات آیۀ 11 )
403 / 61 و 6 / 84 و 4 / 459 و 3 / 2) مر فی 2 )
ص: 146
قوم: و من نصب فعلی تقدیر آمنا به و بکذا فعطف علیه. قال الزجاج: إن عطف علی الهاء کان ضعیفاً، لان عطف المظهر علی
المضمر ضعیف، و من جعله مفعول (آمنا) فنصبه به کأنه قال: آمنا بکذا و کذا، و أسقط الباء فنصب علی المعنی، لأن معنی (آمن)
صدق، فکأنه قال: صدقنا بکذا و کذا، و حذف الجار. و من کسر من هؤلاء بعد القول أو فاء الجزاء، فلأنه لا یقع بعد القول و الفاء إلا
ما هو ابتداء، أو ما هو فی حکم الابتداء. و من کسر جمیع ذلک جعله مستأنفاً، و لم یوقع (آمنا) علیه، و ما نصب من ذلک جعله
مفعولا بإیقاع فعل علیه. فأما قوله (أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ) فمفعول (أُوحِیَ) لا غیر بلا خلاف. و قرأ ابو جعفر (أن لن تقوّل الانس) علی
معنی تکذب. الباقون بتخفیف الواو من القول.
یقول اللَّه تعالی آمراً لمحمد نبیه صلی اللَّه علیه و آله (قُلْ) یا محمد لقومک و من بعثت الیه (أُوحِیَ إِلَیَّ) فالایحاء إلقاء المعنی إلی
النفس خفیاً کالالهام، و انزال الملائکۀ به لخفائه عن الناس إلا علی النبی الذي انزل الیه کالایماء الذي یفهم به المعنی. و المراد-
صفحۀ 84 من 233
هاهنا- انزال الملک به علیه. ثم بین ما أوحی الیه فقال (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) فالاستماع طلب سماع الصوت بالاصغاء الیه، و هو
تطلب لفهم المعنی، و تطلب لیستدل به علی صاحبه. و قیل: ان الجن لما منعوا من استراق السمع طافوا فی الأرض، فاستمعوا القرآن،
فآمنوا به، فانزل بذلک الوحی علی النبی صلی اللَّه علیه و آله ذکره ابن عباس و مجاهد و الضحاك و غیرهم. و النفر الجماعۀ. و الجن
جیل رقاق الأجسام خفیۀ علی صور مخصوصۀ بخلاف صورة الملائکۀ و الناس. و قیل: العقلاء من الحیوان ثلاثۀ اصناف: الملائکۀ، و
الناس، و الجن. و الملک مخلوق من النور، و الانس من الطین و الجن من النار.
ثم ذکر انه قالت الجن بعضها لبعض (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) و العجب هو ص: 147
کل شیء لا یعرف سببه. و قیل: هو ما یدعو إلی التعجب منه لخفاء سببه و خروجه عن العادة فی مثله، فلما کان القرآن قد خرج
بتألیفه عن العادة فی الکلام، و خفی سببه عن الأنام کان عجباً.
و قوله (یَهْدِي إِلَی الرُّشْدِ) حکایۀ ما قالت الجن و وصفت به القرآن، فإنهم قالوا: هذا القرآن یهدي إلی ما فیه الرشاد و الحق (فَآمَنَّا بِهِ)
أي صدقنا بأنه من عند اللَّه (وَ لَنْ نُشْرِكَ) فیما بعد (بِرَبِّنا أَحَداً) فنوجه العبادة الیه بل نخلص العبادة له تعالی (وَ أَنَّهُ تَعالی جَدُّ رَبِّنا) من
کسر الهمزة عطفه علی قوله (إِنَّا سَمِعْنا) و حکی أنهم قالوا (أَنَّهُ) و یجوز أن یکون استأنف الاخبار عنهم. و من فتح فعلی تقدیر فآمنا
بأنه تعالی جدّ ربنا، و معناه تعالی عظمۀ ربنا، لانقطاع کل شیء عظمۀ عنها لعلوها علیه. و منه الجد ابو الأب، و الجد الحظ لانقطاعه
بعلو شأنه. و الجد ضد الهزل لانقطاعه عن السخف، و منه الجدید لأنه حدیث عهد بالقطع فی غالب الأمر. و قال الحسن- فی روایۀ- و
مجاهد و قتادة: معناه تعالی جلالته و عظمته، و فی روایۀ اخري عن الحسن: تعالی غنی ربنا، و کل ذلک یرجع الی معنی وصفه بأنه
عظیم غنی. و یقال: جد فلان فی قومه إذا عظم فیهم. و
روي عن أحدهما علیهم السلام انه قال: لیس للَّه جدّ و إنما قالت ذلک الجن بجهلها فحکاه کما قالت.
و قال الحسن:
ان اللَّه تعالی بعث محمداً صلی اللَّه علیه و آله إلی الانس و الجن، و انه لم یرسل رسولا قط من الجن و لا من أهل البادیۀ، و لا من
.«1» ( النساء، لقوله (وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِکَ إِلَّا رِجالًا نُوحِی إِلَیْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُري
و قوله (مَا اتَّخَذَ صاحِبَۀً وَ لا وَلَداً) علی ما قال قوم من الکفار.
و قوله (وَ أَنَّهُ کانَ یَقُولُ سَفِیهُنا عَلَی اللَّهِ شَطَطاً) من کسر استأنف. و من
__________________________________________________
1) سورة 12 یوسف آیۀ 109 )
ص: 148
نصب عطف علی قوله (وَ أَنَّهُ تَعالی جَ دُّ رَبِّنا) و نصب ذلک بتقدیر آمنا، و قدر للباقی فعلا یلیق به، و یمکن أن یعمل فیه، کما قال
الشاعر:
«1» إذا ما الغانیات برزن یوماً و زججن الحواجب و العیونا
علی تقدیر: و کحلن العیون، و قال مجاهد و قتادة: أرادوا ب (سفیههم) إبلیس و (الشطط) السرف فی ظلم النفس و الخروج عن
الحق، فاعترفوا بأن إبلیس کان یخرج عن الحد بما یغري به الخلق و یدعوهم إلی الضلال.
و قوله (وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَی اللَّهِ کَ ذِباً) اخبار عن اعترافهم بأنهم ظنوا أن لا یقول أحد من الجن و الانس کذباً
علی اللَّه فی اتخاذ الشریک معه و الصاحبۀ و الولد، و أن ما یقولونه من ذلک صدق حتی سمعنا القرآن و تبینا الحق به.
و قوله (وَ أَنَّهُ کانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ یَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) قال البلخی:
قال قوم: المعنی إنه کان رجال من الانس یعوذون برجال من الانس من أجل الجن، لأن الرجال لا یکون إلا فی الناس دون الجن. و
صفحۀ 85 من 233
من قال بالأول قال فی الجن رجال مثل ما فی الانس. و قال الحسن و قتادة و مجاهد: کان الرجل من العرب إذا نزل الوادي فی سفره
قال: أعوذ بعزیز هذا الوادي من شر سفهاء قومه. و معنی (یَعُوذُونَ) یستجیرون، و هذا اخبار من اللَّه تعالی عن نفسه دون الحکایۀ عن
الجن. و العیاذ الاعتصام و هو الامتناع بالشیء من لحاق الشر. و الرجال جمع رجل و هو الذکر البالغ من الذکران. و الإنسان یقع علی
الذکر و المرأة، و الصغیر و الکبیر ثم ینفصل کل واحد بصفۀ تخصه و تمیزه من غیره.
و قوله (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي اثماً الی اثمهم الذي کانوا علیه من الکفر و المعاصی- فی قول ابن عباس و قتادة- و قال مجاهد: یعنی
طغیاناً. و قال الربیع و ابن زید:
__________________________________________________
492 / 1) مر فی 9 )
ص: 149
یعنی فرقاً. و قیل سفهاً. قال الزجاج: یجوز ان یکون الجن زادوا الانس، و یجوز أن یکون الانس زادوا الجن رهقاً. و الرهق لحاق
الإثم، و أصله اللحوق. و منه راهق الغلام إذا لحق حال الرجال قال الأعشی:
«1» لا شیء ینفعنی من دون رؤیتها هل یشتفی وامق ما لم یصب رهقاً
أي لم یعش اثماً. ثم حکی تعالی (وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا کَما ظَنَنْتُمْ) معاشر الانس (أَنْ لَنْ یَبْعَثَ اللَّهُ أَحَ داً) أي لا یحشره یوم القیامۀ و لا
یحاسبه. و قال الحسن:
ظن المشرکون من الجن، کما ظن المشرکون من الانس (أَنْ لَنْ یَبْعَثَ اللَّهُ أَحَ داً) لجحدهم بالبعث و النشور، و استبعدوا ذلک مع
اعترافهم بالنشأة الأولی، لأنهم رأوا إمارة مستمرة فی النشأة الأولی، و لم یروها فی النشأة الثانیۀ، و لم ینعموا النظر فیعلموا أن من قدر
علی النشأة الأولی یقدر علی النشأة الاخري.
و قال قتادة: ظنوا أن لا یبعث اللَّه احداً رسولا.
ثم حکی ان الجن قالت (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي مسسناها بأیدینا. و قال الجبائی: معناه إنا طلبنا الصعود الی السماء، فعبر عن ذلک
باللمس مجازاً، و انما جاز من الجن تطلب الصعود مع علمهم بأنهم یرمون بالشهب لتجویزهم أن یصادفوا موضعاً یصعدون منه لیس
فیه ملک یرمیهم بالشهب، او اعتقدوا أن ذلک غیر صحیح، و لم یصدقوا من أخبرهم بأنهم رموا حین أرادوا الصعود (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ
حَرَساً شَدِیداً وَ شُهُباً) نصب (حرساً) علی التمییز و (شدیداً) نعته و (شهباً) عطف علی (حرساً) فهو نصب ایضاً علی التمییز. و تقدیره
ملئت من الحرس.
وَ لَقَدْ زَیَّنَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً » و الشهب جمع شهاب، و هو نور یمتد من السماء من النجم کالنار. قال اللَّه تعالی
و الحرس جمع «2» « لِلشَّیاطِینِ
__________________________________________________
1) دیوانه (دار بیروت) 124 )
2) سورة 67 الملک آیۀ 5 )
ص: 150
حارس. و قیل: إن السماء لم تحرس قط إلا لنبوة أو عقوبۀ عاجلۀ عامۀ.
ثم حکی أنهم قالوا ایضاً (أَنَّا کُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ یَسْتَمِعِ الْآنَ یَجِ دْ لَهُ شِهاباً رَصَ داً) أي لم یکن فیما مضی منع من
الصعود فی المواضع التی یسمع منها صوت الملائکۀ و کلامهم، و یسمع ذلک، فالآن من یستمع منا ذلک یجد له شهاباً یرمی به و
یرصد و (شهاباً) نصب علی أنه مفعول به و (رصداً) نعته.
صفحۀ 86 من 233
ثم حکی انهم قالوا (وَ أَنَّا لا نَدْرِي) بما ظهر من هذه الآیۀ العجیبۀ (أَ شَرٌّ أُرِیدَ بِمَنْ فِی الْأَرْضِ) من الخلق أي اهلاکاً لهم بکفرهم و
عقوبۀ علی معاصیهم (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) و هدایۀ إلی الحق بأن بعث نبیاً، فان ذلک خاف عنا و قال قوم: إن الشهب لم تکن قبل
النبی صلی اللَّه علیه و آله و إنما رموا به عند بعثه صلی اللَّه علیه و آله و قال آخرون: الشهب معلوم أنها کانت فیما مضی من الزمان، و
لکن کثرت فی زمن النبی صلی اللَّه علیه و آله و عمت لا أنها لم تکن أصلا. قال البلخی: الشهب کانت لا محالۀ غیر انه لم تکن تمتنع
بها الجن عن صعود السماء، فلما بعث النبی صلی اللَّه علیه و آله منع الجن من الصعود
قوله تعالی: [سورة الجن ( 72 ): الآیات 11 الی 20 ] ..... ص: 150
وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِکَ کُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ( 11 ) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِی الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ( 12 ) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا
( الْهُدي آمَنَّا بِهِ فَمَنْ یُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا یَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ( 13 ) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِکَ تَحَرَّوْا رَشَداً ( 14
( وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَکانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( 15
وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَی الطَّرِیقَۀِ لَأَسْقَیْناهُمْ ماءً غَدَقاً ( 16 ) لِنَفْتِنَهُمْ فِیهِ وَ مَنْ یُعْرِضْ عَنْ ذِکْرِ رَبِّهِ یَسْلُکْهُ عَذاباً صَعَداً ( 17 ) وَ أَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( 18 ) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ یَدْعُوهُ کادُوا یَکُونُونَ عَلَیْهِ لِبَداً ( 19 ) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَ داً
(20)
ص: 151
عشر آیات.
قرأ اهل الکوفۀ و یعقوب و سهل (یسلکه) بالیاء بمعنی یسلکه اللَّه. الباقون بالنون علی وجه الاخبار منه تعالی عن نفسه بنون العظمۀ. و
قرأ ابو جعفر و عاصم و حمزة (قل إنما ادعوا ربی) بلفظ الامر. الباقون (قال) علی فعل ماض. و قرأ هشام بن عماد عن ابن عامر (لبداً)
بضم اللام. الباقون بکسر اللام. و اللبد و اللبد بمعنی واحد، و جمع اللبدة لبد، مثل ظلمۀ و ظلم. و یقال: لا بد و لبد، مثل راکع و رکع.
یقول اللَّه تعالی فی تمام الحکایۀ عما قالته الجن الذین آمنوا عند سماع القرآن فإنهم قالوا (وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) و هم الذین عملوا
الصالحات و سمی صالحاً، لأنه عمل ما یصلح به حاله فی دینه. و أما المصلح فهو فاعل الصلاح الذي یقوم به أمر من الأمور، و لهذا
وصف تعالی بأنه مصلح، و لم یجز وصفه بأنه صالح. و الصلاح یتعاظم استحقاق المدح علیه و الثواب کما یختلف استحقاق الشکر
بالنعم، ففی النعم ما یستحق به العبادة و فیها ما لا یستحق به ذلک و إن استحق به الشکر، فلذلک قال (وَ مِنَّا دُونَ ذلِکَ) و المعنی ان
منا الصالحین فی مراتب عالیۀ و منا دون ذلک فی الرتبۀ.
و قوله (کُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) قال ابن عباس و مجاهد و قتادة: یعنی علی مذاهب مختلفۀ: مسلم، و کافر، و صالح، و دون الصالح. و الطرائق
جمع طریقۀ و هی الجهۀ ص: 152
المستمرة مرتبۀ بعد مرتبۀ. و المعنی فیها إنا کنا فی طرق مختلفۀ. و القدد جمع قدة.
و هی المستمرة بالقد فی جهۀ واحدة. و القدد مضمن بجعل جاعل، و هو القادّ، و لیس کذلک الطریقۀ فی تضمن الصفۀ، و إنما هی
کالمذهب الذي یمکن فیه علی استمرار الی حیث انتهی الیه. و المعنی إنا کنا علی طرائق متباینۀ کل فرقۀ یتباین صاحبها کما بین
المقدود بعضه من بعض.
و قوله (وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِی الْأَرْضِ) فالظن- هاهنا- بمعنی العلم و المعنی اعترافهم بأن علموا أنه لا یفوت اللَّه شیء یذهب
فی الأرض، و لا إذا هرب منه بسائر ضروب الهرب، و اعترفوا ایضاً فقالوا (وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدي) یعنون القرآن الذي فیه هدي کل
حی (آمَنَّا بِهِ) أي صدقناه. ثم قالوا (فَمَنْ یُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) أي من یصدق بتوحید اللَّه و عرفه علی صفاته (فَلا یَخافُ بَخْساً) أي نقصاناً فیما
یستحقه من الثواب (وَ لا رَهَقاً) أي و لا یخاف ظلماً، فالرهق لحاق السرف فی الامر، و کأنه قال لا یخاف نقصاً قلیلا و لا کثیراً، و
صفحۀ 87 من 233
ذلک أن اجره و ثوابه موفر علی أتم ما یکون فیه. و قال ابن عباس: معناه لا یخاف نقصاً من حسناته و لا زیادة فی سیئاته، و هو قول
الحسن و قتادة و ابن زید، و التقدیر فمن یؤمن بربه فانه لا یخاف ثم قالوا ایضاً (وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) یعنی الذین استسلموا لما أمرهم
اللَّه به، و انقادوا له (وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ) یعنی الجائرون عن طریق الحق. و القاسط الجائر عن طریق الحق (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي استسلم لأمر اللَّه
(فَأُولئِکَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي طلبوا الهدي إلی الحق،َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَکانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
أي استحقوا بذلک أن یکونوا وقود النار یوم القیامۀ یحرقون بها. و قوله (وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَی الطَّرِیقَۀِ) اخبار من اللَّه تعالی عن نفسه.
و قیل (ان) یجوز أن تکون المخففۀ من الثقیلۀ، فیکون محمولا علی الوحی، فکأنه قال (اوحی الی أن لو استقاموا) و فصل لو بینها و
بین ص: 153
و یحتمل أن تکون (لو) «2» ( و قوله (أَلَّا یَرْجِعُ إِلَیْهِمْ «1» ( الفعل، کما فصل (السین) و (لا) فی قوله (عَلِمَ أَنْ سَیَکُونُ مِنْکُمْ مَرْضی
فیسقط مرة و یلحق «3» ( بمنزلۀ اللام فی قوله (لَئِنْ لَمْ یَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِی الْمَدِینَۀِ لَنُغْرِیَنَّکَ بِهِمْ
أخري، لان (لو) بمنزلۀ فعل الشرط، فکما لحقت اللام زائدة قبل (إن) الداخلۀ علی الشرط قبل فعل الشرط، کذلک لحقت (أن) هذه
أحد أمرین: « وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا » قبل (لو) و معنی
أحدهما- لو استقاموا علی طریقۀ الهدي بدلالۀ قوله (وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِیلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَیْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَکَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ
.«5» ( و قوله (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُري آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَیْهِمْ بَرَکاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لکِنْ کَذَّبُوا «4» ( مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ
الثانی- لو استقاموا علی طریقۀ الکفر بدلالۀ قوله (وَ لَوْ لا أَنْ یَکُونَ النَّاسُ أُمَّۀً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ یَکْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُیُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّۀٍ)
و قیل: انه دخلت (ان) فی (وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) لأنه جواب القسم. و یجوز أن یحذف، کما قال الشاعر: «6»
«7» فأقسم لو شیء أتانا رسوله سواك و لکن لم نجد لک مدفعا
و قال آخر:
__________________________________________________
1) سورة 73 المزمل آیۀ 20 )
2) سورة 20 طه آیۀ 89 )
3) سورة 33 الأحزاب 60 )
[.....] 4) سورة 5 المائدة آیۀ 69 )
5) سورة 7 الاعراف آیۀ 95 )
6) سورة 43 الزخرف آیۀ 33 )
12 / 341 و 9 / 253 و 7 / 529 و 6 / 7) مر فی 5 )
ص: 154
«1» اما و اللَّه إن لو کنت حراً و ما بالحر أنت و لا العتیق
و الاستقامۀ الاستمرار فی جهۀ العلو. و المستقیم من الکلام المستمر علی طریقۀ الصواب. و هو نقیض المحال. و الاستقامۀ علی طریق
الحق التی یدعو الیها العقل طاعۀ اللَّه. و المعنی- هاهنا- فی قول أکثر المفسرین: إنه لو استقام العقلاء علی طریقۀ الهدي و استمروا
علیها و عملوا بموجبها لجازاهم علی ذلک بأن اسقاهم ماء غدقاً، یعنی کثیراً. و الغدق بفتح الدال للمصدر، و بکسرها اسم الفاعل، و
فی ذلک ترغیب فی الهدي. قال الفراء: معناه و أن لو استقاموا علی طریقۀ الکفر لفعلنا بهم ما ذکرناه تغلیظاً للمحنۀ فی التکلیف، و
لذلک قال (لِنَفْتِنَهُمْ فِیهِ) أي نختبرهم بذلک و نبلوهم به. و غدق المکان یغدق غدقاً إذا کثر فیه الماء و الندي، و هو غدق- فی قول
الزجاج- و قوله (لِنَفْتِنَهُمْ فِیهِ) معناه لنختبرهم و نعاملهم معاملۀ المختبر فی شدة التعبد بتکلیف الانصراف عما تدعو شهواتهم الیه، علی
صفحۀ 88 من 233
ما تقتضیه الحکمۀ فی ذلک و الفتنۀ المحنۀ الشدیدة، و المثوبۀ علی قدر المشقۀ فی الصبر عما تدعو الیه الشهوة.
ثم قال تعالی مهدداً لهم و متوعداً (وَ مَنْ یُعْرِضْ عَنْ ذِکْرِ رَبِّهِ) و المعنی من یعدل عن الفکر فیما یؤدیه الی معرفۀ اللَّه و توحیده و
اخلاص عبادته، فالذکر حضور المعنی الدال علی المذکور للنفس، و ضده السهو، و مثله حضور المعنی بالقلب. و الفکر فی وجوه
یَسْلُکْهُ » السؤال عن المعنی طلب للذکر له. و الفکر فی البرهان طلب للعلم بصحۀ المعنی المذکور و أنه حق و نقیضه باطل. و قوله
«2» « سَأُرْهِقُهُ صَ عُوداً » اي متصعداً فی العظم. و قیل: متصعداً قد غمره و أطبق علیه. و معناه عذباً أشهد العذاب من قوله « عَذاباً صَ عَداً
فاما قول العرب: تنفس الصعداء علی وزن (فعلاء) أکثر کلامهم، و منه قیل تنفس صعداً علی وزن غرب و الصعود العقبۀ الشاقۀ. و قال
الفراء:
__________________________________________________
17 / 1) تفسیر القرطبی 18 )
2) سورة 74 المدثر آیۀ 17 )
ص: 155
الصعود صخرة ملساء فی النار و یکلف الصعود علیها، فکلما بلغ رأسها أحد هوي الی أسفلها وقوعاً.
کأنه قال: أوحی الی أن المساجد للَّه، « أوحی » عطف عند جمیع المفسرین علی قوله « وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً » و قوله
و تقدیره: « وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُکُمْ » و قال الخلیل: التقدیر، و لأن المساجد للَّه فلا تدعوا مع اللَّه أحداً مثل قوله
و المعنی الاخبار منه تعالی بأن لا یذکر مع اللَّه فی المساجد- و هی المواضع «1» « أُمَّۀً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّکُمْ فَاعْبُدُونِ » و لأن هذه أمتکم
التی وضعت للصلاة- أحد علی وجه الاشتراك فی عبادته، کما یدعوا النصاري فی بیعهم و المشرکون فی الکعبۀ. و قال الحسن: من
السنۀ إذا دخل المسجد أن یقول: لا إله الا اللَّه، لا أدعو مع اللَّه أحداً. و قیل: معناه إنه یجب أن یدعوه بالوحدانیۀ. و قال الفراء و
الزجاج: المساجد مواضع السجود من الإنسان: الجبهۀ، و الیدان، و الرجلان. و زاد أصحابنا عینی الرکبتین. و المعنی إنه لا ینبغی أن
یسجد بهذه الأعضاء لأحد سوي اللَّه تعالی.
معناه إنه لما قام محمد صلی اللَّه علیه و آله یدعو اللَّه، فیقول: لا إله الا « وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ یَدْعُوهُ کادُوا یَکُونُونَ عَلَیْهِ لِبَداً » و قوله
اللَّه کادوا یکونون علیه جماعات متکاثفات بعضها فوق بعض لیزیلوه بذلک عن دعوته بإخلاص الالهیۀ. و قال ابن عباس و
الضحاك: معناه إن الجن کادوا یرکبونه حرصاً علی سماع القرآن منه.
و قال الحسن و قتادة: معناه تلبدت الانس و الجن علی هذا الامر لیطفئوه فأبی اللَّه الا أن ینصره و یظهره علی من ناواه، کما قال
و قال ابن عباس: هذا من قول الجن، لما رجعوا الی قومهم «2» « یُرِیدُونَ لِیُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْکافِرُونَ »
أخبروهم بما رأوا من طاعۀ أصحاب رسول اللَّه و ائتمامهم به فی الرکوع
__________________________________________________
1) سورة 21 الأنبیاء آیۀ 92 )
2) سورة 61 الصف آیۀ 8 )
ص: 156
و السجود، و هو قول سعید بن جبیر. و اللبد القطع المتکاثفۀ علی الشیء واحدها لبدة، و منه اللبد لتکاثف صفوفه بعضه علی بعض. و
لبد رأسه إذا ألصق بعض شعره ببعض قال عبد مناف بن ربع:
«1» . صابوا بستۀ أبیات و اربعۀ حتی کأن علیهم جابیاً لبدا
فالجابی الجراد الذي یجبی کل شیء یأکله.
صفحۀ 89 من 233
ثم
« إِنَّما أَدْعُوا رَبِّی » حکی ان النبی صلی اللَّه علیه و آله قال
و من قرأ (قل) فمعناه إن اللَّه أمره بأن یقول: إنما أدعو ربی وحده و لا أشرك به أحداً من الأصنام و الأوثان.
و المعنیان متقاربات، لأن اللَّه تعالی إذا أمره بأن یقول فانه یقول لا محالۀ فقد حصل الأمران.
قوله تعالی:[سورة الجن ( 72 ): الآیات 21 الی 28 ] ..... ص: 156
قُلْ إِنِّی لا أَمْلِکُ لَکُمْ ضَ  را وَ لا رَشَ داً ( 21 ) قُلْ إِنِّی لَنْ یُجِیرَنِی مِنَ اللَّهِ أَحَ دٌ وَ لَنْ أَجِ دَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَ داً ( 22 ) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ
رِسالاتِهِ وَ مَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِینَ فِیها أَبَداً ( 23 ) حَتَّی إِذا رَأَوْا ما یُوعَدُونَ فَسَیَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ
( عَدَداً ( 24 ) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِیبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ یَجْعَلُ لَهُ رَبِّی أَمَداً ( 25
عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَ داً ( 26 ) إِلاَّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَ داً ( 27 ) لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ
( أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَیْهِمْ وَ أَحْصی کُلَّ شَیْءٍ عَدَداً ( 28
__________________________________________________
1) اللسان (لبد) )
ص: 157
ثمان آیات.
إِنِّی لا أَمْلِکُ لَکُمْ » بضم الیاء یعقوب. الباقون بفتح الیاء. أمر اللَّه تعالی نبیه محمد صلی اللَّه علیه و آله أن یقول للمکلفین « لیعلم » قرأ
و معناه إنی لا أقدر علی دفع الضرر عنکم و لا إیصال الخیر إلیکم، و انما یقدر علی ذلک اللَّه تعالی. « ضَ  را وَ لا رَشَداً
و انما أقدر علی أن أدعوکم الی الخیر و أهدیکم الی طریق الرشاد، فان قبلتم نلتم الثواب و النفع، و ان رددتموه نالکم العقاب و ألیم
أي لا یقدر أن یجیر علی اللَّه حتی یدفع عنه ما یریده به من « إِنِّی لَنْ یُجِیرَنِی مِنَ اللَّهِ أَحَ دٌ » لهم یا محمد « قُلْ » العذاب. ثم قال ایضاً
یعنی ملتجأ ألجأ الیه أطلب به السلامۀ مما یرید اللَّه تعالی فعله من « مُلْتَحَ داً » أي من دون اللَّه « مِنْ دُونِهِ » أیضاً انا « وَ لَنْ أَجِ دَ » العقاب
العذاب و الألم. و أضافه الی نفسه، و المراد به أمته، لأنه لا یفعل قبیحاً فیخاف العقاب. و المعنی لیس من دون اللَّه ملتحد أي ملجأ.
معناه لکن املک البلاغ من اللَّه الذي هو بلاغ الحق لکل من ذهب عنه و أعرض عن اتباعه بأن « إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ » و قوله
أرشده الی الأدلۀ التی نصبها اللَّه له و أمر بالدعاء إلیها سائر عباده المکلفین، کما أمر أنبیاءه بتبلیغ رسالاته، فیکون التقدیر لا أملک إلا
بلاغاً من اللَّه و رسالاته. و قیل یجوز ان یکون المراد لن یجیرنی من اللَّه أحد إن لم أبلغ رسالاته، فیکون نصب البلاغ علی إضمار
فعل من الجزاء، کقولک إن لا قیاماً فقعوداً و ان لا عطاء فرداً جمیلًا فتکون (لا) منفصلۀ من (إن) و تقدیره إن لا أبلغ بلاغاً من اللَّه و
رسالاته.
بأن خالف ما أمراه به و ارتکب ما نهیاه ص: 158 « وَ مَنْ یَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ » ثم قال
أي مقیمین فیها علی وجه التأبید. و القراء علی کسر (فان) علی الابتداء. و « خالِدِینَ فِیها أَبَداً » جزاء علی ذلک « فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ » عنه
روي عن طلحۀ بن مصروف انه فتح علی تقدیر فجزاؤه أن له. و قال ابن خالویه: سألت ابن مجاهد عن ذلک، فقال: هو لحن. و قال
« قُلْ أُوحِیَ إِلَیَّ » و من فتح فعلی قوله « إِنَّا سَمِعْنا » بعض أهل النظر: زعم ابو عبیدة: ان ما کان من قول الجن فهو مکسور نسقاً علی قوله
و هو اختیار ابن خالویه.
یدفع عنه « مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً » عند ذلک « فَسَ یَعْلَمُونَ » یعنی ما یوعدون به من العقاب علی المعاصی « حَتَّی إِذا رَأَوْا ما یُوعَدُونَ » و قوله
مَنْ » یستنصر بهم الکفار أم المؤمنون؟. و قیل معناه أجند اللَّه أم الذین عبده المشرکون؟ و إنما قال « أَقَلُّ عَدَداً » عقاب اللَّه و من
صفحۀ 90 من 233
و لا ناصر لهم فی الآخرة، لأنه جاء علی جواب من توهم انه إن کانت لهم أخوة فناصرهم أقوي و عددهم اکثر. « أَضْعَفُ ناصِراً
أي « أَمْ یَجْعَلُ لَهُ رَبِّی أَمَداً » به من العقاب « أَ قَرِیبٌ ما تُوعَدُونَ » أي قل لهم لست اعلم « قُلْ إِنْ أَدْرِي » ثم قال لنبیه صلی الله علیه و آله
ثم « عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَ داً » غایۀ ینتهی الیها بعینها أم یؤخره اللَّه تعالی إلی مدة لا یعلمها بعینها إلا اللَّه تعالی الذي هو
فانه ربما أطلعه علی ما غاب عن غیره من الخلائق بأن یوحی الیهم بما شاء من الغیب- ذکره قتادة- « إِلَّا مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ » قال
و معناه إن اللَّه إذا نزل الملک بالوحی أرسل معه رصداً یحفظون الملک من أن یأتی « فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَ داً »
لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ » علی المفعول، کأنه قال یجعل رصداً یسلک من بین یدیه و من خلفه « رصداً » احد من الجن و یسمع الوحی، و نصب
معناه لیظهر المعلوم من التبلیغ. و قال قتادة: معناه لیعلم محمد أن الرسل قبله قد ابلغوا رسالات ربهم. و قال سعید بن جبیر: لیعلم « أَبْلَغُوا
الرسل أن قد ابلغوا رسالات ص: 159
ربهم علی احاطۀ بهم و تحصین لما بلغوا من رسالاته. و قال الزجاج: لیعلم اللَّه أن قد ابلغوا.
« وَ أَحْصی کُلَّ شَیْءٍ عَدَداً » معناه انه یعلم ما عندهم فیحیط بما لدیهم فیصیر فی معلومه بمنزلۀ ما احیط به « وَ أَحاطَ بِما لَدَیْهِمْ » و قوله
یحتمل شیئین: « عدداً » معناه انه یعلم الأشیاء مفصلۀ بمنزلۀ من یحصیها لیعلمها کذلک. و قال الزجاج: نصب
أحدهما- و احصی کل شیء فی حال العدد، فیکون العدد بمعنی المعدود، کما یقال: للمنقوص نقص، فلا یخفی علیه شیء من
الأشیاء، لا سقوط ورقۀ، و لا حبۀ فی ظلمات الأرض.
أي لیبلغوا (رِسالاتِ « لِیَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا » و الثانی- ان یکون بمعنی المصدر، و تقدیره و أحصی کل شیء احصاء. و قال الجبائی معنی
رَبِّهِمْ) فعبر عن المعلوم بالعلم کما یقال: ما علم اللَّه منی ذلک أي ما فعلته، لأنه لو فعله لعلم الله ذلک (وَ أَحْصی کُلَّ شَیْءٍ عَدَداً)
معناه انه لا شیء یعلمه عالم او یذکره ذاکر إلا و هو تعالی عالم به و محص له. و الإحصاء فعل، و لیس هو بمنزلۀ العلم، فلا یجوز ان
یقال احصی ما لا یتناهی کما یجوز ان یقال: علم ما لا یتناهی، لان الإحصاء مثل المحصی لا یکون إلا فعلا متناهیاً، فإذا لم یجز ان
یفعل ما لا یتناهی لم یجز ان یقال یحصی ما لا یتناهی.
و الفرق بینهما واضح.
ص: 160
-73 سورة المزمل: ..... ص: 160
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و الضحاك و هی عشرون آیۀ فی الکوفی و المدنی الاول و تسع عشرة فی البصري و ثمانی عشرة فی المدنی
الأخیر
[سورة المزمل ( 73 ): الآیات 1 الی 10 ] ..... ص: 160
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( یا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ ( 1) قُمِ اللَّیْلَ إِلاَّ قَلِیلًا ( 2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِیلًا ( 3) أَوْ زِدْ عَلَیْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلًا ( 4
إِنَّا سَنُلْقِی عَلَیْکَ قَوْلًا ثَقِیلًا ( 5) إِنَّ ناشِئَۀَ اللَّیْلِ هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِیلًا ( 6) إِنَّ لَکَ فِی النَّهارِ سَبْحاً طَوِیلًا ( 7) وَ اذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ وَ
( تَبَتَّلْ إِلَیْهِ تَبْتِیلًا ( 8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَکِیلًا ( 9
( وَ اصْبِرْ عَلی ما یَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِیلًا ( 10
صفحۀ 91 من 233
عشر آیات.
بکسر الواو و المدّ جعله مصدراً ل (واطأ) یواطئ مواطأة، و وطاء. و معناه إن ناشئۀ اللیل و عمل ناشئۀ « و طاء » قرأ ابن عامر و ابو عمرو
، اللیل یواطئ لسمع القلب اکثر مما یواطئ ساعات النهار، لأن البال افرغ للانقطاع عن کثیر مما یشغل التبیان فی تفسیر القرآن، ج 10
ص: 161
بالنهار. الباقون- بفتح الواو- مقصورة، و روي عن الزهري- بکسر الواو- مقصورة، و منه قوله صلی اللَّه علیه و آله: اللهم اشدد
بالجر کوفی غیر حفص و یعقوب بدلا من (ربک). الباقون بالرفع علی الاستئناف، فیکون « رب المشرق » وطاءك علی مضر، و قرأ
رفعاً بالابتداء و خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) و یجوز أن یکون خبر الابتداء بتقدیر هو رب المشرق.
و « یا أَیُّهَا الْمُزَّمِّلُ » هذا خطاب من اللَّه تعالی للنبی صلی اللَّه علیه و آله و قیل: إن المؤمنین داخلون فیه علی وجه التبع. یقول اللَّه له
فأدغم التاء فی الزاي، لان الزاي قریبۀ المخرج من « متزمل » معناه الملتف فی ثیابه، یقال تزمّل فی ثیابه، فهو متزمل إذا التف. و الأصل
التاء، و هو أبدي فی المسموع من التاء. و قال قتادة: معناه المتزمل بثیابه، و قال عکرمۀ: المتزمل بعباء النبوة، و کل شیء لفف، فقد
تزمل، قال امرؤ القیس:
«1» کأن اباناً فی أفانین ودقه کبیر أناس فی بجاد مزمل
یعنی کبیر أناس مزمل فی بجاد و هو الکساء، و جره علی المجاورة للبجاد.
أمر من اللَّه تعالی للنبی صلی اللَّه علیه و آله بقیام اللیل إلا القلیل منه، و قال الحسن: إن اللّه فرض علی النبی « قُمِ اللَّیْلَ إِلَّا قَلِیلًا » و قوله
و المؤمنین أن یقوموا ثلث اللیل فما زاد، فقاموه حتی تورمت أقدامهم، ثم نسخ تخفیفاً عنهم. و قال غیره: هو نفل لم ینسخ، لأنه لو
کان فرضاً لما کان مخیراً فی مقداره- ذکره الجبائی- و إنما بین تخفیف النفل. و قال قوم: المرغب فیه قیام ثلث اللیل او نصف اللیل
او اللیل کله إلا القلیل. و لم یرغب بالآیۀ فی قیام جمیعه لأنه تعالی قال
__________________________________________________
1) دیوانه (السندوبی) 158 )
ص: 162
یعنی علی النصف. و قال الزجاج (نصفه) بدل من (اللیل) کقولک ضربت زیداً رأسه. و « إِلَّا قَلِیلًا نِصْ فَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِیلًا أَوْ زِدْ عَلَیْهِ »
المعنی: قم نصف اللیل إلا قلیلا او انقص منه قلیلا. و المعنی قم نصف اللیل او انقص من نصف اللیل أو زد علی نصف اللیل، و ذلک
قبل ان یتعبد بالخمس صلوات. و قال ابن عباس و الحسن و قتادة:
کان بین أول السورة و آخرها- الذي نزل فیه التخفیف- سنۀ. و قال سعید بن جبیر:
عشر سنین. و قال الحسن و عکرمۀ: نسخت الثانیۀ بالأولی. و الاولی أن یکون علی ظاهره، و یکون جمیع ذلک علی ظاهره مرغباً فی
جمیع ذلک إلا أنه لیس بفرض و إن کانت سنۀ مؤکدة. و النصف أحد قسمی الشیء المساوي للآخر فی المقدار.
و القلیل من الشیء الناقص عن قسمه الآخر، و کلما کان أنقص کان أحق بإطلاق الصفۀ، و ما لا یعتد به من النقصان لا یطلق علیه.
أمر من اللَّه تعالی له بأن یرتل القرآن و الترتیل ترتیب الحروف علی حقها فی تلاوتها، و تثبت فیها، و الحدر هو « وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلًا »
الاسراع فیها و کلاهما حسنان إلا أن الترتیل- هاهنا- هو المرغب فیه. و قال مجاهد: معناه ترسل فیه ترسلا. و قال الزجاج: معناه بینه
تبییناً أي بین جمیع الحروف، و ذلک لا یتم بأن یعجل فی القراءة.
اخبار من اللَّه تعالی لنبیه أنه سیطرح علیه قولا ثقیلا. و قال الحسن و قتادة: إنه یثقل العمل به لمشقۀ « إِنَّا سَنُلْقِی عَلَیْکَ قَوْلًا ثَقِیلًا » و قوله
فیه. و قال ابن زید: معناه العمل به ثقیل فی المیزان و الأجر، لیس بشاق. و قیل: معناه قول عظیم الشأن، کما تقول هذا الکلام رزین، و
هذا قول له وزن إذا کان واقعاً موقعه.
صفحۀ 92 من 233
قال مجاهد: ناشئۀ اللیل التهجد فی اللیل. و قال الحسن و قتادة: هو ما کان بعد العشاء الآخرة. و « إِنَّ ناشِئَۀَ اللَّیْلِ هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً » و قوله
عن أبی جعفر ص: 163
و أبی عبد اللَّه علیهما السلام أنهما قالا: هو القیام آخر اللیل إلی صلاة اللیل.
و قال قوم:
ناشئۀ اللیل ابتداء عمل اللیل شیئاً بعد شیء إلی آخره. و الناشئۀ الظاهرة بحدوث شیء بعد شیء، و اضافته إلی اللیل توجب انه من
عمل اللیل الذي یصلح أن ینشأ فیه.
من قرأ- بالفتح- مقصوراً، قال معناه: لقوة الفکر فیه أمکن موقعاً. و قیل: هو أشد من عمل النهار، و قال مجاهد: « هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً » و قوله
معناه واطأ اللسان القلب مواطأة و وطاء و الوطاء المهاد المذلل للتقلب علیه، فکذلک عمل اللیل الذي هو أصلح له فیه تمهید للتصرف
فی الدلائل و ضروب الحکم و وجوه المعانی.
أي أشد استقامۀ و صواباً لفراغ البال، و انقطاع ما یشغل القلب. و المعنی إن عمل اللیل أشد ثباتاً من عمل النهار، و « وَ أَقْوَمُ قِیلًا » و قوله
أثبت فی القلب من عمل النهار. و الأقوم الأخلص استقامۀ، لأنه القول یشمل المعنی علی ما فیه استقامۀ و فیه اضطراب. و قد یقل
ذلک و یکثر، و هو فی القول ظاهر کما هو فی الخط، ففیه الحرف المقوم و فیه الحرف المضطرب. و قال ابن زید: معناه أقوم قراءة
لفراغه من شغل الدنیا، و قال أنس: معناه أصوب. و قال مجاهد: معناه اثبت.
قال قتادة: معناه إن لک یا محمد فی النهار متصرفاً و منقلباً أي ما تقضی فیه حوائجک. و قرأ « إِنَّ لَکَ فِی النَّهارِ سَبْحاً طَوِیلًا » و قوله
یحیی ابن معمر بالخاء، و کذلک الضحاك، و معناه التوسعۀ. یقال اسبخت القطن إذا وسعته للندف، و یقال لما تطایر من القطن و
تفرق عند الندف سبائخ، و السبح المر السهل فی الشیء، کالمر فی الماء، و السبح فی عمل النهار هو المر فی العمل الذي یحتاج فیه
إلی الضیاء. و أما عمل اللیل فلا یحتاج فیه إلی ضیاء لتمکن ذلک العمل کالفکر فی وجوه البرهان و تلاوة القرآن. و قال الجبائی فی
أي نوماً، و قال الزجاج: ص: 164 « لَکَ فِی النَّهارِ سَبْحاً » نوادره
معناه إن فاتک شیء باللیل فلک فی النهار فراغ تقضیه.
أي انقطع الیه « وَ تَبَتَّلْ إِلَیْهِ تَبْتِیلًا » یعنی اسماء اللَّه الحسنی التی تعبد بالدعاء بها « وَ اذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ » ثم قال لنبیه صلی اللَّه علیه و آله
انقطاعاً، فالتبتل الانقطاع إلی عبادة اللَّه، و منه مریم البتول و فاطمۀ البتول، لانقطاع مریم الی عبادة اللَّه، و انقطاع فاطمۀ عن القرین، و
منه قول الشاعر:
«1» کأن لها فی الأرض نسیاً تقصه إذا ما غدت و إن تکلمک تبلت
أي بقطع کلامها رویداً رویداً، و قیل: الانقطاع إلی الله تأمیل الخیر من جهته دون غیره، و جاء المصدر علی غیر الفعل، کما قال
و قیل: تقدیره تبتل نفسک الیه تبتیلا، فوقع المصدر موقع مقاربه. و قوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ) من «2» ( (أَنْبَتَکُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً
رفع فعلی انه خبر مبتدإ محذوف، و تقدیره: هو رب المشرق، و من جر جعله بدلا من قوله (ربک) و تقدیره اذکر اسم رب المشرق و
هو مطلع الشمس موضع طلوعها و رب المغرب، یعنی موضع غروبها، و هو المتصرف فیها و المدبر لما بینهما (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا
احد تحق له العبادة سواه (فَاتَّخِذْهُ وَکِیلًا) أي حفیظاً للقیام بأمرك فالوکیل الحفیظ بأمر غیره. و قیل:
معناه اتخذه کافلا لما وعدك به.
ثم قال (وَ اصْبِرْ) یا محمد (علی ما یقول) هؤلاء الکفار من أذاك و ما یشغل قلبک (وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِیلًا) فالهجر الجمیل اظهار
الجفوة من غیر ترك الدعاء إلی الحق علی وجه المناصحۀ.
__________________________________________________
117 / 1) مر فی 7 )
صفحۀ 93 من 233
2) سورة 71 نوح آیۀ 17 )
ص: 165
قوله تعالی:[سورة المزمل ( 73 ): الآیات 11 الی 19 ] ..... ص: 165
وَ ذَرْنِی وَ الْمُکَ ذِّبِینَ أُولِی النَّعْمَ ۀِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِیلًا ( 11 ) إِنَّ لَدَیْنا أَنْکالًا وَ جَحِیماً ( 12 ) وَ طَعاماً ذا غُصَّۀٍ وَ عَذاباً أَلِیماً ( 13 ) یَوْمَ تَرْجُفُ
( الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ کانَتِ الْجِبالُ کَثِیباً مَهِیلًا ( 14 ) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَیْکُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَیْکُمْ کَما أَرْسَلْنا إِلی فِرْعَوْنَ رَسُولًا ( 15
فَعَصی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَ ذْناهُ أَخْذاً وَبِیلًا ( 16 ) فَکَیْفَ تَتَّقُونَ إِنْ کَفَرْتُمْ یَوْماً یَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِیباً ( 17 ) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ کانَ وَعْدُهُ
( مَفْعُولًا ( 18 ) إِنَّ هذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلًا ( 19
تسع آیات.
لما امر اللَّه تعالی النبی صلی اللَّه علیه و آله بالصبر علی أذي قومه، و أن یهجرهم هجراً جمیلا قال علی وجه التهدید للکفار (وَ ذَرْنِی)
یا محمد (وَ الْمُکَ ذِّبِینَ) الذین یکذبونک فیما تدعوهم الیه من التوحید و إخلاص العبادة و الاعتراف بالبعث و النشور، و الثواب و
الجزاء، کما یقول القائل: دعنی و إیاه إذا أراد أن یهدده، یقال: یذر بمعنی یترك، و یدع، و لا یستعمل ماضیه، و لا ماضی (یدع) و لا
یقال: و ذر، و لا ودع، استغناء بقولهم ترك عن ذلک، لان الابتداء بالواو عندهم مکروه، و لذلک أبدلوا منها الهمزة فی قولهم
(أقتت) و الأصل (وقتت)، و قالوا (تخمۀ) و الأصل (وخمۀ) و کذلک کل ما یصرف منه مما فی أوله واو إلا قولهم: و ادع من الدعۀ
فلم یستغنوا عنه بتارك. ص: 166
و قوله (أُولِی النَّعْمَ ۀِ) معناه ذوي النعمۀ أي اصحاب النعمۀ، و النعمۀ- بفتح النون- لین الملمس و ضدها الخشونۀ، و معناه (وَ ذَرْنِی وَ
الْمُکَ ذِّبِینَ) أي ارض بعقاب المکذبین لست تحتاج إلی اکثر من ذلک کما یقال: دعنی و إیاه، فانه یکفیه ما ینزل به من غیر تقصیر
مما یقع به، و هذا تهدد شدید.
و قوله (وَ مَهِّلْهُمْ قَلِیلًا) أي اخرهم فی المدة قلیلا فالتمهیل التأخیر فی المدة، و قد یکون التأخیر فی المکان، فلا یسمی تمهیلا، فإذا
کان فی المدة فهو تمهیل کما ان التأخیر فی الأجل تأجیل آخر.
و قوله (إِنَّ لَدَیْنا أَنْکالًا) أي قیوداً- فی قول مجاهد و قتادة- واحدها نکل (وَ جَحِیماً) أي ناراً عظیمۀ، و جحیم اسم من اسماء جهنم (وَ
طَعاماً ذا غُصَّۀٍ) قال ابن عباس: معناه ذا غصۀ بشوك یأخذ الحلق، فلا یدخل و لا یخرج. و قیل:
معناه یأخذ بالحلقوم لخشونته و شدة تکرهه (وَ عَذاباً أَلِیماً) أي عقاباً موجعاً مؤلماً.
ثم بین متی یکون ذلک فقال (یَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي اعتدنا هذه الأنواع من العذاب فی یوم ترجف الأرض أي تتحرك باضطراب
شدید (وَ الْجِبالُ) أي و ترجف الجبال معها أیضاً (وَ کانَتِ الْجِبالُ کَثِیباً مَهِیلًا) قال ابن عباس: تصیر الجبال رملا سائلا متناثراً، فالکثیب
الرمل المجتمع الکثیر، و مهیل مفعول من هلت الرمل اهیله و ذلک إذا حرك أسفله فسال أعلاه، و یقال: مهیول کما یقال مکیل و
مکیول، و انهال الرمل انهیالا و (الغصۀ) تردد اللقمۀ فی الفم لا یسیغها الذي یروم أکلها قال الشاعر:
«1» لو بغیر الماء حلقی شرق کنت کالغصان بالماء اعتصاري
__________________________________________________
151 / 421 و 6 ،130 / 1) مر فی 1 )
ص: 167
یقال غص بریقه یغص غصصاً، و فی قلبه غصۀ من کذا، و هی کاللذغۀ التی لا یسیغ معها الطعام و لا الشراب.
و قوله (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَیْکُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَیْکُمْ) اخبار من اللَّه تعالی و خطاب للمکلفین فی عصر النبی صلی اللَّه علیه و آله و من بعده
صفحۀ 94 من 233
بأنه أرسل الیهم رسولا یدعوهم إلی عبادته و إخلاص توحیده (شاهِداً عَلَیْکُمْ) بقبولهم إن قبلوا و علیهم إن لم یقبلوا (کَما أَرْسَلْنا) أي
أرسلناه إلیکم مثل ما أرسلنا (إِلی فِرْعَوْنَ رَسُولًا) یعنی موسی ابن عمران علیه السلام. ثم اخبر عن فرعون فقال (فَعَصی فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)
یعنی موسی، فلم یقبل منه ما أمره به و دعاه الیه (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِیلًا) أي اخذاً ثقیلًا شدیداً عقوبۀ له علی عصیانه موسی رسول اللَّه، و
کل ثقیل وبیل، و منه: کلأ مستوبل أي متوخم لا یستمرء لثقله، و منه الوبل، و الوابل، و هو المطر العظیم القطر، و منه الوبال و هو ما
یغلظ علی النفس و أصله الغلظ قال طرفۀ:
«1» فمرت کهاة ذات خیف جلالۀ عقیلۀ شیخ کالوبیل یلندد
الوبیل- هاهنا- الغلیظ من العصی و (کهاة) ناقۀ مسنۀ و (الخیف) جلد الضرع و (یلندد) شدید الخصومۀ.
قوله (فَکَیْفَ تَتَّقُونَ إِنْ کَفَرْتُمْ یَوْماً یَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِیباً) أي إن کفرتم باللَّه و جحدتم نعمه، و کذبتم رسوله، و إنما یجعل الولدان، و
هم الأولاد الصغار شیباً لشدته، و عظم أهواله، کما یقال: قد حدث أمر تشیب منه النواصی. و قیل:
(یَوْماً یَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِیباً) علی وجه المثل، و الشیب جمع أشیب، یقال: شاب الإنسان یشیب شیباً إذا ابیض شعره. ثم زاد فی صفۀ شدة
ذلک الیوم أیضاً فقال (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي متصدع بشدة ذلک الیوم، و إنما لم یقل منفطرة، لأنه جري
__________________________________________________
48 / 1) دیوانه 38 و تفسیر القرطبی 18 )
ص: 168
علی طریق النسبۀ أي ذات انفطار، و لم یجر علی طریق (فاعلۀ) کما قالوا للمرأة:
مطفل أي ذات طفل. و قال الزجاج: تقدیره السماء منفطر بالیوم مثقلۀ به. و قال الحسن: معناه السماء مثقل به. و قال غیره: السماء مثقلۀ
بذلک الیوم من شدته.
و قال قوم: معناه متشقق بالأمر الذي یجعل الولدان شیباً. و السماء یؤنث و یذکر، فمن ذکر أراد السقف.
و قوله (کانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) معناه إن ما وعد اللَّه به فلا بد من کونه، فلذلک عبر عنه بلفظ الماضی فکأنه قد وجد. ثم قال (إِنَّ هذِهِ
تَذْکِرَةٌ) أي هذه القصۀ التی ذکرناها و بیناها (تَذْکِرَةٌ) أي عظۀ لمن أنصف من نفسه و فکر فیها، فالتذکرة التبصرة، و هی الموعظۀ
التی یذکر بها ما یعمل علیه.
و قوله (فَمَنْ شاءَ اتَّخَ ذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلًا) معناه إن من شاء من المکلفین اتخذ إلی ثواب ربه سبیلا، لأنه قادر علی الطاعۀ التی لو فعلها
وصل الی الثواب. و اللَّه تعالی قد دعاه إلی ما یوصله الیه و رغبه فیه، و بعث رسولا یدعوه ایضاً الیه. و إن لم یفعل فبسوء اختیاره
انصرف عنه.
قوله تعالی:[سورة المزمل ( 73 ): آیۀ 20 ] ..... ص: 168
إِنَّ رَبَّکَ یَعْلَمُ أَنَّکَ تَقُومُ أَدْنی مِنْ ثُلُثَیِ اللَّیْلِ وَ نِصْ فَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَۀٌ مِنَ الَّذِینَ مَعَکَ وَ اللَّهُ یُقَدِّرُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ
فَتابَ عَلَیْکُمْ فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَیَکُونُ مِنْکُمْ مَرْضی وَ آخَرُونَ یَضْ رِبُونَ فِی الْأَرْضِ یَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ
یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَ ناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِکُمْ مِنْ خَیْرٍ تَجِدُوهُ
( عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَیْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ ( 20
ص: 169
آیۀ واحدة.
قرأ نافع و ابو عمرو و ابن عامر (و نصفه و ثلثه) بکسر الفاء و الثاء بمعنی إن ربک یعلم أنک تقوم أدنی من ثلثی اللیل و من نصفه و
صفحۀ 95 من 233
من ثلثه أي و ادنی من نصفه و أدنی من ثلثه. الباقون بالنصب بمعنی أنک تقوم أدنی من ثلثی اللیل و تقوم نصفه و ثلثه. و الثلث
یخفف و یثقل، لغتان، و مثله ربع و عشر. و قال ابو عبیدة:
الاختیار الخفض فی (ثلثه و نصفه) لأنه قال (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) و کیف یقدرون علی أن یقوموا نصفه أو ثلثه، و هم لا یحصونه، و
قال غیره: لیس المعنی علی ما قال و إنما المعنی علم أن لن یطیقوه، یعنی قیام اللیل، فخفف اللَّه ذلک، قال و الاختیار النصب، لأنها
أوضح فی النظر، لأنه قال لنبیه صلی اللَّه علیه و آله (قُمِ اللَّیْلَ إِلَّا قَلِیلًا) ثم نقله عن اللیل کله إلا شیئاً یسیراً ینام فیه، و هو الثلث. و الثلث
یسیر عند الثلثین.
ثم قال (نِصْ فَهُ) أي قم نصفه (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِیلًا) أي قم نصفه، و اکتفی بالفعل الأول من الثانی، لأنه دلیل علیه أو انقص من النصف
قلیلا إلی الثلث (أو زد) هکذا إلی الثلثین جعله موسعاً علیه. و فی الناس من قال: هذه الآیۀ ناسخۀ لما ذکره فی أول السورة من الأمر
الحتم بقیام اللیل إلا قلیلا أو نصفه او انقص منه. و قال آخرون: إنما نسخ ما کان فرضاً إلی ان صار نفلا، و قد قلنا: ان الأمر فی أول
السورة علی وجه الندب، فکذلک- هاهنا- فلا وجه للتنافی حتی ینسخ بعضها ببعض یقول اللَّه تعالی لنبیه ان ربک یا محمد لیعلم
انک ص: 170
تقوم اقل من ثلثی اللیل و اقل من نصفه و من ثلثه فیمن جرّ ذلک، و من نصب فمعناه إنک تقوم أقل من ثلثی اللیل و تقوم نصفه و
ثلثه و تقوم طائفۀ من الذین معک علی الایمان (وَ اللَّهُ یُقَدِّرُ اللَّیْلَ وَ النَّهارَ) لتعملوا فیه بالصواب علی ما یأمرکم به (عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ) قال الحسن: معناه علم أن لن تطیقوه (فَتابَ عَلَیْکُمْ) أي لم یلزمکم إثماً کما لا یلزم التائب أي رفع التبعۀ فیه کرفع التبعۀ عن
التائب. و قوله (فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَیَکُونُ مِنْکُمْ مَرْضی) فتاب علیکم بما رغبتم فیه و ذلک یقتضی التخفیف عنکم (وَ
آخَرُونَ یَضْ رِبُونَ فِی الْأَرْضِ) أي و منکم قوم آخرون یضربون أي یسافرون فی الأرض و منکم قوم (آخَرُونَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ) و
کل ذلک یقتضی التخفیف عنکم (فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِیمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّکاةَ) و معناه أقیموا الصلاة بحدودها التی أوجبها اللَّه
علیکم و استمروا علیها و أعطوا ما وجب علیکم من الزکاة المفروضۀ (وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) أي و أنفقوا فی سبیل اللَّه و الجهات
التی أمرکم بها و ندبکم إلی النفقۀ فیها، و سمی ذلک (قرضاً) تلطفاً فی القول، لان اللَّه تعالی من حیث أنه یجازیهم علی ذلک
بالثواب، فکأنه استقرض منهم لیرد عوضه و إنما قال (حسناً) أي علی وجه لا یکون فیه وجه من وجوه القبح.
ثم قال (وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِکُمْ مِنْ خَیْرٍ) أي ما فعلتم من الطاعات (تَجِدُوهُ) أي تجدوا ثوابه و جزاءه (عِنْدَ اللَّهِ) و قوله (هُوَ خَیْراً وَ أَعْظَمَ
أَجْراً) أي تجدوه خیراً لکم، و هو أفضل و أعظم ثواباً، و هو عطف علی (خَیْرٍ). ثم قال (وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) علی معاصیکم معاشر
المکلفین (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي ستار لذنوبکم صفوح لاجرامکم إذا تبتم و أقلعتم و رجعتم الیه (رَحِیمٌ) بکم منعم علیکم. و قال ابن زید:
القرض فی الآیۀ النوافل سوي الزکاة.
ص: 171
-74 سورة المدثر: ..... ص: 171
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و قال الضحاك هی مدنیۀ و هی خمسون و ست آیات فی الکوفی و البصري و المدنی الأول، و خمس فی
المدنی الأخیر. و قال ابو سلمۀ ابن عبد الرحمن أول ما نزل من القرآن (یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ) و
حکی ذلک ابو سلمۀ عن جابر بن عبد اللَّه. قال قال رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله جاوزت بحراء فنودیت فنظرت عن یمینی فلم أر
شیئاً فنظرت عن شمالی فلم أر شیئاً فنظرت أمامی فلم أر شیئاً فنظرت خلفی فلم أر شیئاً، فرفعت رأسی فلم أر شیئاً، فأتیت خدیجۀ
صفحۀ 96 من 233
فقلت دثرونی و صبوا علی ماء بارداً قال فدثرونی فصبوا علی ماء بارداً فنزلت (یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ)
و قال الزهري: أول ما نزل قوله (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِي خَلَقَ)
[سورة المدثر ( 74 ): الآیات 1 الی 10 ] ..... ص: 171
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1) قُمْ فَأَنْذِرْ ( 2) وَ رَبَّکَ فَکَبِّرْ ( 3) وَ ثِیابَکَ فَطَهِّرْ ( 4
( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( 5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَکْثِرُ ( 6) وَ لِرَبِّکَ فَاصْبِرْ ( 7) فَإِذا نُقِرَ فِی النَّاقُورِ ( 8) فَذلِکَ یَوْمَئِذٍ یَوْمٌ عَسِیرٌ ( 9
( عَلَی الْکافِرِینَ غَیْرُ یَسِیرٍ ( 10
عشر آیات. ص: 172
هذا خطاب من اللَّه تعالی لنبیه محمد صلی اللَّه علیه و آله یقول له (یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ) و أصله المتدثر بثیابه، فأدغمت التاء فی الدال، لأنها
من مخرجها مع أن الدال أقوي بالجهر فیها، یقال: تدثر تدثراً و دثره تدثیراً، و دثر الرسم یدثر دثوراً إذا محی أثره، فکأنه قال: یا ایها
الطالب صرف الأذي بالدثار اطلبه بالإنذار.
أمر من اللَّه تعالی له أن یقوم و ینذر قومه، و الانذار الاعلام بموضع المخافۀ لیتقی، فلما کان لا مخافۀ أشد من « قُمْ فَأَنْذِرْ » و قوله
الخوف من عقاب اللَّه کان الانذار منه اجلّ الانذار، و تقدیره قم إلی الکفار فأنذر من النار.
و التکبیر وصف الأکبر علی اعتقاد معناه کتکبیر المکبر فی الصلاة بقوله اللَّه اکبر، و التکبیر نقیض « کبر » منصوب ب « وَ رَبَّکَ » و قوله
التصغیر، و مثله التعظیم. و الکبیر الشأن هو المختص باتساع المقدور و المعلوم من غیر مانع من الجود.
فاللَّه تعالی قادر لا یعجزه شیء، و عالم لا یخفی علیه شیء لا یمنعه من الجود علی عباده شیء، فهو اکبر من کل کبیر بما لا یساویه
شیء، و اختصاصه بالمقدور و المعلوم بأنه ما صح من مقدور او معلوم فهو قادر علیه عالم به فهو لنفسه کبیر و اکبر من کل کبیر
سواه.
أي و طهر ثیابک فهو منصوب به. و الطهارة النظافۀ بانتفاء النجاسۀ، لأن النظافۀ قد تکون بانتفاء الوسخ من غیر « وَ ثِیابَکَ فَطَهِّرْ » و قوله
معناه من لبسها علی معصیته، « وَ ثِیابَکَ فَطَهِّرْ » نجاسۀ، و قد تکون بانتفاء النجاسۀ. فالطهارة فی الآیۀ هو القسم الأخیر. و قال ابن عباس
کما قال سلامۀ بن غیلان الثقفی- أنشده ابن عباس:
«1» و إنی بحمد اللَّه لا ثوب فاجر لبست و لا من غدة أتقنع
__________________________________________________
[.....] 489 / 1) مر فی 6 )
ص: 173
و قال الزجاج: معناه لم أکن غادراً، قال یقال: للغادر دنس الثیاب أي لم أعص قط و قیل: معناه شمر ثیابک- و فی روایۀ عن ابن
عباس و إبراهیم و قتادة- ان معناه و ثیابک فطهر من الذنوب. و قال ابن سیرین و ابن زید: اغسلها بالماء.
و قیل معناه شمر ثیابک، و قیل: معناه و ثیابک فطهر للصلاة فیها.
و قال الحسن: کل معصیۀ رجز و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الزهري: معناه فاهجر « فَاهْجُرْ » منصوب بقوله « وَ الرُّجْزَ » و قوله
الأصنام. و قال ابراهیم و الضحاك: الرجز الإثم. و قال الکسائی: الرجز- بکسر الراء- العذاب، و بفتحها الصنم و الوثن. و قالوا: المعنی
اهجر ما یؤدي إلی العذاب، و لم یفرق احد بینهما.
و بالضم قرأ حفص و یعقوب و سهل. الباقون بالکسر إما لأنهما لغتان مثل الذکر و الذکر او بما قاله الکسائی. و قال قوم: الرجز بالضم
صفحۀ 97 من 233
الصنم. و قال: کان الرجز صنمین: أساف و نائلۀ، نهی اللَّه تعالی عن تعظیمهما.
قال ابن عباس و ابراهیم و الضحاك و قتادة و مجاهد: معناه لا تعط عطیۀ لتعطی أکثر منها، و قال الحسن و « وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَکْثِرُ » و قوله
الربیع و انس: معناه لا تمنن حسناتک علی اللَّه مستکثراً لها، فینفصل ذلک عند اللَّه. و قال ابن زید:
معناه لا تمنن ما أعطاك اللَّه من النبوة و القرآن مستکثراً به الأجر من الناس، و قال ابن مجاهد: معناه لا تضعف فی عملک مستکثراً
لطاعتک، و قال قوم: معناه لا تمنن علی الناس بما تنعم به علیهم علی سبیل الاستکثار لذلک. و قال جماعۀ من النحویین:
إن (تستکثر) فی موضع الحال و لذلک رفع. و أجاز الفراء الجزم علی أن یکون جواباً للنهی، و الرفع هو الوجه. و المن ذکر النعمۀ بما
یکدرها، و یقطع حق الشکر بها، یقال: منّ بعطائه یمنّ مناً إذا فعل ذلک، فأما من علی الأسیر إذا أطلقه، فهو قطع أسباب الاعتقال عنه.
و یقال: لمن أنعم علی وجه المن، لأنه بهذه المنزلۀ. و أصله ص: 174
أي غیر مقطوع. و الاستکثار طلب الکثرة یقال: استکثر فلان من المال و العلم، و المراد- «1» « فَلَهُمْ أَجْرٌ غَیْرُ مَمْنُونٍ » القطع من قوله
هاهنا- هو طلب ذکر الاستکثار للعطیۀ.
قال ابراهیم: من أجل ربک فاصبر علی عطیتک. « وَ لِرَبِّکَ فَاصْبِرْ » و قوله
علی ما أمرك به من أداء الرسالۀ و تعلیم الدین، و « وَ لِرَبِّکَ فَاصْبِرْ » و قال مجاهد: لأجل اللَّه فاصبر علی أذي المشرکین. و قیل: معناه
ما ینالک من الأذي و التکذیب، فاحتمله لتنال الفوز من اللَّه بالنعیم و الصبر الذي هو طاعۀ اللَّه هو الصبر علی الضرر الذي یدعو الیه
العقل، لان ما یدعو الیه العقل فخالق العقل یریده، لأنه بمنزلۀ دعاء الأمر الی الفعل، و السبب الذي یتقوي به علی الصبر هو التمسک
بداعی العقل دون داعی الطبع، لان العقل یدعو بالترغیب فیما ینبغی أن یرغب فیه. و الطبع داعی الهوي یدعو إلی خلاف ما فی
العقل.
و قوله (فَإِذا نُقِرَ فِی النَّاقُورِ) معناه إذا نفخ فی الصور، و هو کهیأة البوق- فی قول مجاهد- و قیل: ان ذلک فی أول النفختین، و هو أول
الشدة الهائلۀ العامۀ، و الناقور علی وزن (فاعول) من النقر، کقولک: هاضوم من الهضم و حاطوم من الحطم، و هو الذي من شأنه أن
ینقر فیه للتصویت به.
لنعم اللَّه الجاحدین لآیاته « عَلَی الْکافِرِینَ » و قوله (فَذلِکَ یَوْمَئِذٍ) یعنی الیوم الذي ینفر فیه فی الناقور (یَوْمٌ عَسِیرٌ) أي یوم شدید عسر
فالیسیر القلیل الکلفۀ، و منه الیسار و هو کثرة المال لقلۀ الکلفۀ به فی الإنفاق، و منه تیسر الامر لسهولته و قلۀ الکلفۀ فیه. و « غَیْرُ یَسِیرٍ »
و المعنی فذلک یوم عسیر یوم النفخ فی الصور، و یومئذ یجوز أن یکون « فَذلِکَ » مرتفع بقوله « یَوْمٌ عَسِیرٌ » قال الزجاج: قوله
__________________________________________________
1) سورة 95 التین آیۀ 6 )
ص: 175
نصباً علی معنی فذلک یوم عسیر فی یوم ینفخ فی الصور، و یجوز الرفع، و إنما بنی علی الفتح لاضافته إلی (إذ) لأن (إذ) غیر متمکنۀ.
قوله تعالی:[سورة المدثر ( 74 ): الآیات 11 الی 25 ] ..... ص: 175
( ذَرْنِی وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِیداً ( 11 ) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ( 12 ) وَ بَنِینَ شُهُوداً ( 13 ) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِیداً ( 14 ) ثُمَّ یَطْمَعُ أَنْ أَزِیدَ ( 15
( کَلاَّ إِنَّهُ کانَ لِآیاتِنا عَنِیداً ( 16 ) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ( 17 ) إِنَّهُ فَکَّرَ وَ قَدَّرَ ( 18 ) فَقُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ ( 20
( ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَکْبَرَ ( 23 ) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ یُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25
خمس عشرة آیۀ.
و معناه دعنی و إیاه فانی « ذَرْنِی وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِیداً » یقول اللَّه تعالی لنبیه صلی اللَّه علیه و آله علی وجه التهدید للکافر الذي وصفه
صفحۀ 98 من 233
کاف فی عقابه کما تقول العرب: دعنی و إیاه لا أن اللَّه تعالی یجوز علیه المنع حتی یقول: ذرنی و إیاه، و لکن المعنی ما قلناه.
قال الزجاج: یحتمل ان یکون من صفۀ الخالق، و یحتمل أن یکون من صفۀ المخلوق، فإذا حملناه علی صفۀ الخالق « وحیداً » و قوله
کان معناه دعنی و من خلقته متوحداً بخلقه لا شریک لی فی خلقه و جعلته علی الأوصاف التی ذکرتها، و إذا حمل علی صفه
وَ جَعَلْتُ لَهُ » المخلوق، کان معناه و من خلقته فی بطن أمه وحده لا شیء له ثم جعلت له کذا و کذا- ذکره مجاهد و قتادة- و قوله
أي مالا کثیراً له مدد یأتی شیئاً بعد شیء، فوصفه بأنه ممدود یقتضی هذا المعنی. و قال مجاهد التبیان فی تفسیر القرآن، « مالًا مَمْدُوداً
ج 10 ، ص: 176
و سعید بن جبیر: نزلت الآیۀ فی الولید بن المغیرة المخزومی. و قالا: کان ماله الف دینار. و قال سفیان: کان ماله أربعۀ آلاف دینار. و
أي و اولاداً « وَ بَنِینَ شُهُوداً » قال النعمان بن سالم: کان أبرص. و قال عطاء عن عمر: کان غلۀ شهر شهر. و قال مجاهد: کان بنوه عشرة
ذکوراً معه یستمتع بمشاهدتهم، و ینتفع بحضورهم. و قیل کان بنوه لا یغیبون عنه لغنائهم عن رکوب السفر فی التجارة بخلاف من هو
غائب عنهم.
أي سهلت له التصرف فی الأمور تسهیلا و قد یکون التسهیل من المصیبۀ لیخف الحزن بها، و قد یکون « وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِیداً » و قوله
لما یتصرف فیه من المبالغۀ.
أي لم یشکرنی علی هذه النعم، و هو مع ذلک یطمع أن أزید فی إنعامه. و التمهید و التوطئۀ و التذلیل و « ثُمَّ یَطْمَعُ أَنْ أَزِیدَ » و قوله
التسهیل نظائر.
کأنه قال: ارتدع عن هذا و انزجر کما ان (صه) بمنزلۀ اسکت (و مه) بمنزلۀ اکفف. و إنما « کَلَّا » ثم قال تعالی علی وجه الردع و الزجر
هی أصوات سمی الفعل بها، فکأنه قال: انزجر، فلیس الأمر علی ما تتوهم.
أي معانداً، فالعنید الذاهب عن « عَنِیداً » أي إنما لم أفعل به ذلک، لأنه لحجتنا و أدلتنا « إِنَّهُ کانَ لِآیاتِنا » ثم بین لم کان کذلک فقال
الشیء علی طریق العداوة له، یقال عند العرق یعند عنوداً، فهو عاند إذا نفر، و هو من هذا، و المعاندة منافرة المضادة، و کذلک العناد،
عنود أي جحود بتکذیب المعاندة- فی قول ابن عباس و قتادة- « عنید » و هذا الکافر یذهب عن آیات اللَّه ذهاب نافر عنها. و قیل معنی
و قیل: معناه معاند، و بعیر عنود أي نافر قال الشاعر:
«1» إذا نزلت فاجعلونی وسطا إنی کبیر لا أطیق العندا
__________________________________________________
283 ،14 / 1) مر فی 6 )
ص: 177
فالارهاق الاعجال بالعنف و الصعود العقبۀ التی یصعب صعودها، و هی الکئود و الکدود فی ارتقائها « سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً » أي نفراً، و قوله
و نقیض الصعود الهبوط، و قیل: صعود جبل من نار فی جهنم یؤخذون بارتقائه، فإذا وضع یدیه ذابت، فإذا رفعها عادت و کذلک
رجلاه، فی خبر مرفوع. و قیل: صعود جبل فی جهنم من نار یضرب بالمقامع حتی یصعد علیه، ثم یضرب حتی ینزل ذلک دأبه ابداً.
أي فکر فکراً یحتال به للباطل، لأنه لو فکر علی وجه طلب الرشاد لم یکن مذموماً بل کان ممدوحاً، و لذلک مدح « إِنَّهُ فَکَّرَ » ثم قال
أي قدر فقال: إن قلنا شاعر کذبتنا « وَ قَدَّرَ » أي علی وجه طلب الحق. و قوله «1» « إِنَّ فِی ذلِکَ لَآیاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ » اللَّه قوماً فقال
العرب باعتبار ما أتی به، و إن قلنا کاهن لم یصدقونا، لان کلامه لا یشبه کلام الکهان، فنقول ساحر یأثر ما أتی به عن غیره من
أي عوقب بعقاب آخر کیف قدر من « ثُمَّ قُتِلَ کَیْفَ قَدَّرَ » هذا. ثم کرر تعالی فقال « کَیْفَ قَدَّرَ » أي لعن « فَقُتِلَ » السحرة. فقال اللَّه تعالی
و قال الحسن: هو شتم من اللَّه لهذا الکافر. «2» « قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ » إبطال الحق تقدیراً آخر. و قیل: لعن بما یجري مجري القتل، و مثله
أي قبض وجهه « ثُمَّ عَبَسَ » نظر من ینکر الحق و یدفعه، و لو نظر طلباً للحق کان ممدوحاً و کان نظره صحیحاً. و قوله « ثُمَّ نَظَرَ » و قوله
صفحۀ 99 من 233
تکرها للحق، یقال: عبس یعبس عبوساً، فهو عابس و عباس فالعبوس و التکلیح و التقطیب نظائر
__________________________________________________
1) سورة 13 الرعد آیۀ 3 و سورة 30 الروم آیۀ 21 و سورة 39 الزمر آیۀ 42 و سورة 45 الجاثیۀ آیۀ 12 )
2) سورة 51 الذاریات آیۀ 10 )
ص: 178
فالبسور بدوّ التکره الذي یظهر فی الوجه و أصله من قولهم: بسر بالأمر إذا عجل به « وَ بَسَرَ » فی اللغۀ، و ضده الطلاقۀ و البشاشۀ. و قوله
قبل حینه، و منه البسر لتعجیل حاله قبل الارطاب قال توبۀ:
«1» و قد رابنی منها صدود رأیته و إعراضها عن حاجتی و بسورها
فالادبار الأخذ فی جهۀ الدبر خلاف جهۀ الإقبال، فذلک ادبار و هذا إقبال، « ثُمَّ أَدْبَرَ » فکأنه قیل: قبض وجهه و بدي التکره فیه. و قوله
یقال: دبر یدبر دبوراً و أدبر إدباراً، و تدبر نظر فی عاقبۀ الأمر، و دبره أي عمله علی إحکام العاقبۀ و کل مأخوذ من جهۀ الخلف مدبر.
أي طلب کبراً لیس له، و لو طلب کبراً هو له لم یکن مذموماً، و فی صفات اللَّه تعالی « وَ اسْتَکْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ یُؤْثَرُ » و قوله
لان له الکبریاء، و هو کبیر الشأن فی أعلی المراتب لاختصاصه باتساع مقدوراته و المعلوم فی أعلی المراتب. و «2» « الْجَبَّارُ الْمُتَکَبِّرُ »
قیل: ان الولید قال فی القرآن: و اللَّه لیعلو و ما یعلی و ما هو بشعر و لا کهانۀ، و لکنه سحر یؤثر من قول البشر، و السحر حیلۀ یخفی
سببها فیوهم الشیء علی خلاف ما هو به و ذلک منفی عن کل ما یشاهد و یعلم انه قد خرج عن العادة مما لا یمکن علیه معارضۀ، و
لو کان القرآن من قول البشر لأمکنهم أن یأتوا بمثله، کما لو کان قلب العصا حیۀ من فعل ساحر لأمکن السحرة أن یأتوا بمثله. ثم قال
أي لیس هذا إلا قول البشر و لیس من کلام اللَّه عناداً منه و بهتاناً. « إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ » یعنی الولید
__________________________________________________
74 / 275 و القرطبی 19 / 1) مجاز القرآن 2 )
2) سورة 59 الحشر آیۀ 23 )
ص: 179
قوله تعالی:[سورة المدثر ( 74 ): الآیات 26 الی 35 ] ..... ص: 179
( سَأُصْلِیهِ سَقَرَ ( 26 ) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ( 27 ) لا تُبْقِی وَ لا تَذَرُ ( 28 ) لَوَّاحَۀٌ لِلْبَشَرِ ( 29 ) عَلَیْها تِسْعَۀَ عَشَرَ ( 30
وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِکَۀً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَۀً لِلَّذِینَ کَفَرُوا لِیَسْتَیْقِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ وَ یَزْدادَ الَّذِینَ آمَنُوا إِیماناً وَ لا
یَرْتابَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِیَقُولَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْکافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا کَذلِکَ یُضِلُّ اللَّهُ مَنْ یَشاءُ
وَ یَهْدِي مَنْ یَشاءُ وَ ما یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِیَ إِلاَّ ذِکْري لِلْبَشَرِ ( 31 ) کَلاَّ وَ الْقَمَرِ ( 32 ) وَ اللَّیْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( 33 ) وَ الصُّبْحِ إِذا
( أَسْفَرَ ( 34 ) إِنَّها لَإِحْدَي الْکُبَرِ ( 35
عشر آیات.
بغیر الف. « دبر » بإسکان الذال و قطع الهمزة من (أدبر) الباقون بفتح الذال و الالف معها « إذ أدبر » قرأ نافع و حمزة و حفص عن عاصم
و « إِذا أَسْفَرَ » و قرأ ابن مسعود بزیادة الف، و من قال (دبر، و أدبر) فهما لغتان. قیل: هو مثل قبل و اقبل و الاختیار عندهم (أدبر) لقوله
لم یقل إذا سفر، لان ابن عباس، قال لعکرمۀ: حین دبر اللیل، لان العرب تقول: دبر فهو دابر، و حجۀ نافع و حمزة
قول النبی صلی اللَّه علیه و آله (إذا اقبل اللیل من هاهنا و أدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصیام)
ثم قال ابو عبیدة: أدبر ولی، و دبرتی جاء خلفی.
صفحۀ 100 من 233
لما حکی اللَّه تعالی صفات الکافر الذي ذکره و هو الولید بن المغیرة، و انه ص: 180
أي ألزمه جهنم، و « سَأُصْلِیهِ سَ قَرَ » فکر و قدر إلی ان قال: هذا القرآن سحر مأثور، و هو قول البشر، قال اللَّه تعالی مهدداً له و متوعداً
الاصلاء إلزام موضع النار أصلاه یصلیه إصلاء و اصطلی فهو یصطلی اصطلاء، و صلاه یصلیه، و أصله اللزوم.
و سقر اسم من اسماء جهنم، و لم یصرف للتعریف و التأنیث و أصله من سقرته الشمس تستقره سقراً إذا آلمت دماغه. و قد سمیت
النار سقر لشدة إیلامها، و منه الصقر بالسین و الصاد، لأن شدته فی نفسه کشدة الألم فی أذي صیده.
لا» إعظاماً للنار و تهویلا لها أي و لم یعلمک اللَّه سقر علی کنهها و صفتها، ثم وصف بعض صفاتها فقال « وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ » و قوله
و قال مجاهد: معناه لا تبقی من فیها حیاً، و لا تذره میتاً. و قال غیره: لا تبقی احداً من أهلها إلا تناولته، و لا تذره من « تُبْقِی وَ لا تَذَرُ
العذاب. و الإبقاء ترك شیء مما أخذ، یقال أبقی شیئاً یبقیه إبقاء، و أبقاه اللَّه أي أطال مدّته. و الباقی هو المستمر الوجود.
أي مغیرة لجلد الإنسان الذي هو البشرة- فی قول مجاهد- و قال المؤرج: لواحۀ بمعنی حرّاقۀ، و به قال الفراء. و « لَوَّاحَ ۀٌ لِلْبَشَرِ » و قوله
لأنه لا یجوز أن یصفها بأنها تسودّ البشرة «1» « وَ بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِمَنْ یَري » قال غیرهما: معناه تلوح لجمیع الخلق حتی یروها، کما قال
و التلویح تغیر اللون إلی الأحمر و التلویح بالنار تغیر بشرة أهلها إلی الاحمرار، یقال: لوحته الشمس « إنها لا تُبْقِی وَ لا تَذَرُ » مع قوله
تلوحه تلویحا فهی لواحۀ علی المبالغۀ فی کثرة التلویح، و البشر جمع بشرة، و هی ظاهر الجلدة، و منه سمی الإنسان بشراً، لأنه ظاهر
الجلدة، بتعریه من الوبر و الریش و الشعر الذي یکون فی غیره من الحیوان فی غالب أمره.
أي علی سقر تسعۀ عشر من الملائکۀ. و إنما خص بهذه العدة لتوافق صحۀ الخبر لما جاء به الأنبیاء قبله صلی « عَلَیْها تِسْعَۀَ عَشَرَ » و قوله
اللَّه علیه و آله، و یکون فی
__________________________________________________
1) سورة 79 النازعات آیۀ 36 )
ص: 181
أي لم نجعل من یتولی تدبیر « وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِکَ ۀً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ » ذلک مصلحۀ للمکلفین. و قد بین ذلک بقوله
نعم اللَّه و جحدوا ربوبیته « لِلَّذِینَ کَفَرُوا » و محنۀ و تشدیداً فی التکلیف « إِلَّا فِتْنَۀً » النار إلا من الملائکۀ و لم نجعلهم علی هذه العدة
لیلزمهم النظر فی ذلک، فلما کانت هذه العدة التی جعلت علیها الملائکۀ یظهر عندها ما کان فی نفس الکافر مما یقتضیه کفره، کان
فتنۀ له، لان الفتنۀ هی المحنۀ التی تخرج ما فی النفس من خیر او شر بإظهار حاله کإظهار الحکایۀ للمحکی. و الملک عبارة عما کان
علی خلاف صورة الجن و الانس من المکلفین. و قال قوم: لا یکون ملکا إلا رسولا لأنه من الرسالۀ، کما قال الهذلی:
«1» الکنی الیها و خیر الرسو ل أعلمهم بنواحی الخبر
و أصله ملأك بالهمز کما قال الشاعر:
«2» فلست لانسی و لکن بملإك تنزل من جو السماء یصوب
و الملک عظیم الخلق شدید البطش کریم النفس. و الأصل نفسه منشرحۀ بالطاعۀ انشراح الکریم بالجود، و أصله من النور. و وجه
دلالۀ هذه العدة من الملائکۀ علی نبوة النبی صلی اللَّه علیه و آله هو انه إذا کان اللَّه- عز و جل- قد اخبر به فی الکتب المتقدمۀ و لم
یکن محمد صلی اللَّه علیه و آله ممن قرأها و لا تعلمها من أحد من الناس دل علی أن اللَّه أعلمه و انزل علیه به وحیاً أبانه به من جمیع
و التقدیر لیعلم أهل الکتاب « لِیَسْتَیْقِنَ الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ » الخلق لیدل علی صدقه مع انه احد الأشیاء التی أخبر بها علی هذه الصفۀ
أي و یزداد « وَ یَزْدادَ الَّذِینَ آمَنُوا إِیماناً » یقیناً ان محمداً صادق من حیث اخبر بما هو فی کتبهم من غیر قراءة لکتبهم و لا تعلم منهم
بذلک ایضاً المؤمنون الذین عرفوا اللَّه إیماناً مضافاً الی ایمانهم. و وجه المحنۀ علی الکفار بتکلیفهم ان یستدلوا حتی
__________________________________________________
صفحۀ 101 من 233
299 ،11 / 1) مر فی 8 )
2) اللسان (ملک) )
ص: 182
أي لا « وَ لا یَرْتابَ » یعرفوا ان اللَّه تعالی قادر ان یقوي هذه العدة من الملائکۀ بما یفی بتعذیب أهل النار علی ما هم علیه من الکثرة
فی خبره. « الْمُؤْمِنُونَ » فی خبره و لا یرتاب أیضاً « الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتابَ » یشک
و معناه لئلا یقول الذین فی قلوبهم شک و نفاق (ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) اي أي « وَ لِیَقُولَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْکافِرُونَ » و قوله
شیء أراد اللَّه بهذا مثلا، و قیل اللام فی قوله (وَ لِیَقُولَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) لام العاقبۀ کما قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِیَکُونَ لَهُمْ
فقال اللَّه تعالی (کَ ذلِکَ یُضِلُّ اللَّهُ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدِي مَنْ یَشاءُ) أي مثل ما فضح اللَّه هؤلاء الکفار و ذمهم مثل ذلک «1» ( عَدُ  وا وَ حَزَناً
یضل من یشاء من الکفار. و الإضلال- هاهنا- اظهار فضیحۀ الکفار بما یوجب الذم، و معناه الحکم علیهم بالضلال عن الحق، و
الاخبار بأنهم یستحقون اللعن بتکذیبهم النبی صلی اللَّه علیه و آله، و ما انزل علیه. و نقیضه الهدایۀ أي و یحکم بهدایۀ المؤمنین إلی
الحق و مصیرهم الی الطاعۀ، و تصدیقهم بالحق عند نزوله و قبولهم له و قال ابن عباس و قتادة و الضحاك:
عدة الملائکۀ الموکلین بالنار فی التوراة و الإنجیل تسعۀ عشر.
ثم اخبر تعالی فقال (وَ ما یَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّکَ إِلَّا هُوَ) أي لا یعلم جنود اللَّه إلا اللَّه. ثم قال (وَ ما هِیَ إِلَّا ذِکْري لِلْبَشَرِ) قیل معناه إن النار
فی الدنیا تذکیر بالنار فی الآخرة. و قال قتادة و مجاهد: النار الموصوفۀ بهذه الصفۀ ذِکْري لِلْبَشَرِ و عظۀ لهم. و قال البلخی: إِلَّا ذِکْري
لِلْبَشَرِ أي الجنود ذکري أي عظۀ للبشر، لان اللَّه تعالی لا یحتاج الی ناصر و معین.
ثم قال (کَلَّا وَ الْقَمَرِ) أي حقاً ثم اقسم بالقمر (وَ اللَّیْلِ إِذْ أَدْبَرَ) قیل معناه إذا ولی یقال: دبر و أدبر، و قد قرئ بهما. و قیل: إنما دبر اللیل
بان جاء
__________________________________________________
1) سورة 28 القصص آیۀ 8 )
ص: 183
بعده النهار و آخره. و تقول العرب: قبح اللَّه ما قبل منک و ما دبر (وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أضاء و أنار- فی قول قتادة- و هو قسم
آخر. و قال قوم: التقدیر و رب هذه الأشیاء، لان الیمین لا یکون إلا باللَّه. و قال قوم: معنی قوله (وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي کشف عن
الظلام و أنار الاشخاص. و قوله (إِنَّها لَإِحْدَي الْکُبَرِ) جواب القسم، و قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك: معناه إن النار
لإحدي الکبر. و قال قوم: ان هذه الآیۀ لَإِحْدَي الْکُبَرِ. و الکبر جمع الکبري، و هی العظمی و روي عن ابن کثیر أنه (قرأ إنها لحدي
الکبر) لا یهمزه و لا یکسر یسقط الهمزة تخفیفاً، کقولهم فی زید الأحمر زید لحمر. و فی أصحاب الایکۀ اصحاب لیکۀ.
و الاختیار قطع الألف، لأن العرب إذا حذفت مثل هذا نقلت حرکۀ الهمزة إلی ما قبلها، و اللام قبل هذه الهمزة متحرکۀ، و اللام فی
الأحمر لام التعریف ساکنۀ.
قوله تعالی:[سورة المدثر ( 74 ): الآیات 36 الی 56 ] ..... ص: 183
نَذِیراً لِلْبَشَرِ ( 36 ) لِمَنْ شاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَتَقَدَّمَ أَوْ یَتَأَخَّرَ ( 37 ) کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَ بَتْ رَهِینَۀٌ ( 38 ) إِلاَّ أَصْحابَ الْیَمِینِ ( 39 ) فِی جَنَّاتٍ
( یَتَساءَلُونَ ( 40
عَنِ الْمُجْرِمِینَ ( 41 ) ما سَلَکَکُمْ فِی سَ قَرَ ( 42 ) قالُوا لَمْ نَکُ مِنَ الْمُ َ ص لِّینَ ( 43 ) وَ لَمْ نَکُ نُطْعِمُ الْمِسْکِینَ ( 44 ) وَ کُنَّا نَخُ وضُ مَعَ
( الْخائِضِینَ ( 45
صفحۀ 102 من 233
وَ کُنَّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ ( 46 ) حَتَّی أَتانَا الْیَقِینُ ( 47 ) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَۀُ الشَّافِعِینَ ( 48 ) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْکِرَةِ مُعْرِضِینَ ( 49 ) کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
( مُسْتَنْفِرَةٌ ( 50
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُ حُفاً مُنَشَّرَةً ( 52 ) کَلاَّ بَلْ لا یَخافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) کَلاَّ إِنَّهُ تَذْکِرَةٌ ( 54 ) فَمَنْ
( شاءَ ذَکَرَهُ ( 55
( وَ ما یَذْکُرُونَ إِلاَّ أَنْ یَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوي وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56
ص: 184
احدي و عشرون آیۀ قرأ نافع و ابن عامر و ابو جعفر (مستنفرة) بفتح الفاء. الباقون بکسرها و معناهما متقارب، لان من فتح الفاء أراد
أنه نفرها غیرها، و من کسر الفاء أراد أنها نافرة، و انشد الفراء:
«1» امسک حمارك إنه مستنفر فی أثر أحمرة عمدن لغرّب
و النفور الذهاب عن المخوف بانزعاج، نفر عن الشیء ینفر نفوراً فهو نافر، و التنافر خلاف التلاؤم، و استنفر طلب النفور (و مستنفرة)
طالبۀ للنفور. و قرأ نافع و یعقوب (و ما تذکرون) بالتاء علی الخطاب. الباقون بالیاء علی الخبر لما اخبر اللَّه تعالی ان الآیۀ التی ذکرها
لإحدي الکبر، بین أنه بعث النبی (نَذِیراً لِلْبَشَرِ) أي منذراً مخوفاً معلماً مواضع المخافۀ، و النذیر الحکیم بالتحذیر عما ینبغی ان یحذر
منه، فکل نبی نذیر، لأنه حکیم بتحذیره عقاب اللَّه تعالی علی معاصیه (و نذیراً) نصب علی الحال. و قال الحسن: إنه وصف النار و
قال ابن زید: هو وصف النبی. و قال أبو رزین: هو من صفۀ اللَّه تعالی، فمن قال: هو للنبی قال کأنه قیل: قم نذیراً. و قوله (لِمَنْ شاءَ
مِنْکُمْ أَنْ یَتَقَدَّمَ أَوْ یَتَأَخَّرَ) معناه إن هذا الانذار متوجه إلی من یمکنه ان یتقی عذاب النار بأن یجتنب معاصیه و یفعل طاعاته، فیقدر
__________________________________________________
1) اللسان (نفر) )
ص: 185
علی التقدم و التأخر فی أمره بخلاف ما یقوله المجبرة الذین یقولون بتکلیف ما لا یطاق لمنع القدرة. و قال قتادة: معناه لمن شاء منکم
أن یتقدم فی طاعۀ اللَّه أو یتأخر عنها بمعصیته. و المشیئۀ هی الارادة.
و قوله (کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَ بَتْ رَهِینَۀٌ) معناه إن کل نفس مکلفۀ مطالبۀ بما عملته و کسبته من طاعۀ او معصیۀ، فالرهن أخذ الشیء بأمر
علی أن لا یرد إلا بالخروج منه رهنه یرهنه رهناً قال زهیر:
«1» و فارقتک برهن لافکاك له یوم الوداع فأمسی الرهن قد غلقا
و کذلک هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لافکاك له. قال الرمانی: فی ذلک دلالۀ علی القائلین باستحقاق الذم، لأنه عم الارتهان
بالکسب فی هذا الموضع، و هم یزعمون انه یرتهن بأن لم یفعل ما وجب علیه من غیر کسب شیء منه، فکانت الآیۀ حجۀ علی فساد
مذهبهم. و هذا الذي ذکره لیس بصحیح، لان الذي فی الظاهر ان الإنسان رهن بما کسبت یداه. و لم یقل: و لا یرهن إلا بما کسب له
إلا من جهۀ دلیل الخطاب الذي هو فاسد عند اکثر الأصولیین، علی ان الکسب هو ما یجتلب به نفع او یدفع به ضرر، و یدخل فی
ذلک الفعل، و ألا یفعل، فلا تعلق فی الآیۀ.
و لما ذکر تعالی أن (کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَ بَتْ رَهِینَۀٌ) استثنی من جملۀ النفوس فقال (إِلَّا أَصْحابَ الْیَمِینِ) و الاستثناء منقطع، لان اصحاب
الیمین لیسوا من الضلال الذین هم رهن بما کسبوه، و تقدیره لکن أصحاب الیمین (فِی جَنَّاتٍ) أي بساتین أجنها الشجر، و اصحاب
الیمین هم کل من لم یکن من الضالین. و قال الحسن:
هم اصحاب الجنۀ. و قال قوم: هم الذین لیس لهم شیء من الذنوب. و قال قوم:
__________________________________________________
صفحۀ 103 من 233
1) دیوانه 39 (دار بیروت) )
ص: 186
هم أطفال المؤمنین. و قوله (یَتَساءَلُونَ) أي یسأل بعضهم بعضاً (عَنِ الْمُجْرِمِینَ) العصاة فی طاعۀ اللَّه، فیقولون لهم (ما سَلَکَکُمْ فِی
سَقَرَ) أي ما أدخلکم فی جهنم فالمجرم هو القاطع بالخروج عن أمر اللَّه و نهیه الی ارتکاب الکبائر من القبیح، و الجارم القاطع. و
السلوك الدخول. و سقر اسم من اسماء جهنم. ثم حکی ما یجیبهم به اصحاب النار فإنهم یقولون لهم: أدخلنا فی النار لأنا (لَمْ نَکُ
مِنَ الْمُصَلِّینَ) أي لم نک نصلی ما أوجب علینا من الصلاة المفروضۀ علی ما قررها الشرع، و فی ذلک دلالۀ علی ان الإخلال بالواجب
یستحق به الذم و العقاب، لأنهم لم یقولوا انا فعلنا ترکاً للصلاة بل علقوا استحقاقهم للعقاب بالإخلال بالصلاة و فیها دلالۀ علی أن
الکفار مخاطبون بالعبادة لان ذلک حکایۀ عن الکفار بدلالۀ قوله فی آخر الآیۀ (وَ کُنَّا نُکَذِّبُ بِیَوْمِ الدِّینِ).
و قوله (وَ لَمْ نَکُ نُطْعِمُ الْمِسْکِینَ) أي لم نکن نخرج الزکوات التی وجبت علینا، و الکفارات التی یلزمنا دفعها الی المساکین. و هم
الفقراء، فالمسکین الذي سکنته الحاجۀ الی ما فی ایدي الناس عن حال النشط. و حال الفقیر أشد من حال المسکین. قال اللَّه تعالی
فسماهم اللَّه مساکین مع أن لهم مرکباً فی البحر قال الشاعر: «1» ( (أَمَّا السَّفِینَۀُ فَکانَتْ لِمَساکِینَ یَعْمَلُونَ فِی الْبَحْرِ
«2» أنا الفقیر الذي کانت حلوبته وفق العیال فلم یترك له سبد
(وَ کُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِ ینَ) قال قتادة: معناه کلما غوي غاویاً لدخول فی الباطل غوینا معه أي کنا نلوث أنفسنا بالمرور فی الباطل
کتلویث الرجل بالخوض فلما کان هؤلاء یخرجون مع من یکذب بالحق مشیعین لهم فی القول کانوا خائضین معهم (وَ کُنَّا) مع ذلک
(بُ ذِّ کَ نُ مِ وْ یَ بِ نِ ی
دِّ ل
ا
)
ي
ا
ا
ن
ک
د
ح
جن م
و
ی
ء
ا
ز
ج
ل
ا
و
و
ه
م
و
ی
ۀ
م
ا
ی
ق
ل
ا
،
ب
ی
ذ
ک
ت
ل
ا
ف
ل
ی
ز
ن
ت
ر
ب
خ
ل
ا
ی
ل
ع
ه
ن
ا
ب
ذ
ک
د
ا
ق
ت
ع
ا
ب
کل ذ
ه
ی
ف
و
أ
م
ک
ح
ل
ا
ه
ب
،
__________________________________________________
1) سورة 18 الکهف آیۀ 80 )
[.....] 283 / 2) مر تخریجه فی 5 )
ص: 187
فهؤلاء اعتقدوا ان الخبر بکون یوم الدین کذب. و الدین الجزاء، و هو الإیصال إلی کل من له شیء او علیه شیء ما یستحقه، فلذلک
یوم الدین، و هو یوم الجزاء و هو یوم أخذ المستحق بالعدل. و قوله (حَتَّی أَتانَا الْیَقِینُ) معناه حتی جاءنا العلم و الیقین الذي یوجد برد
الثقۀ به فی الصدر أو دلیله، یقال: وجد فلان برد الیقین و ثلج فی صدره، و لذلک لا یوصف اللَّه تعالی بأنه متیقن، فقال اللَّه تعالی
فَما لَهُمْ عَنِ » الذین یشفعون لهم، لأن عذاب الکفر لا یسقطه اللَّه بالشفاعۀ، بالإجماع. ثم قال « فَما تَنْفَعُهُمْ شَ فاعَۀُ الشَّافِعِینَ » لهم
أي أي شیء لهم؟ و لم أعرضوا و تولوا عن النبوة و الرشد؟! و لم یتعظوا به إلی ان صاروا الی جهۀ الضلال علی وجه الإنکار « التَّذْکِرَةِ
أي مثلهم فی النفور عما تدعوهم الیه من الحق و اعراضهم، مثل الحمر إذا نفرت و « کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ » علیهم. ثم شبههم، فقال
و هو السبع یعنی الأسد، یقال نفر، و استنفر، مثل علا متنه و استعلاه و سمع إعرابی رجلا یقرأ « فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » مرت علی وجهها إذا
(کَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) فقال: طلبها قسورة، فقیل له:
ویحک إن فی القرآن (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال (مستنفرة) إذاً، فالفرار الذهاب عن الشیء خوفاً منه، فر یفر فراً و فراراً، فهو فار إذا هرب و
الفار الهارب.
و الهرب نقیض الطلب، و اصل الفرار الانکشاف عن الشیء، و منه فر الفرس یفره فراً إذا کشف عن سنه. و القسورة الأسد. و قیل: هو
الرامی للصید. و أصله الأخذ بالشدة من قسره یقسره قسراً أي قهره. و قال ابن عباس: القسورة الرماة و قال سعید بن جبیر: هم القناص.
و فی روایۀ أخري عن ابن عباس: جماعۀ الرجال و قال ابو هریرة: هو الأسد. و هو قول زید بن اسلم، و فی روایۀ عن ابن عباس و أبی
زید: القسور بغیر هاء تأنیث.
صفحۀ 104 من 233
و قوله (بَلْ یُرِیدُ کُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً) اخبار من اللَّه ص: 188
تعالی بأنهم لیسوا کالحمر المستنفرة الفارة من القسورة، بل لأن کل رجل منهم یرید أن یعطی صحفاً منشرة. قال الحسن و قتادة و
مجاهد: انهم یریدون صحفاً منشرة أي کتباً تنزل من السماء کتاباً إلی فلان و کتاباً الی فلان: أن آمنوا بمحمد صلی اللَّه علیه و آله. و
قیل: إنهم قالوا کانت بنو إسرائیل إذا أذنب منهم مذنب أنزل اللَّه کتاباً أن فلاناً أذنب فما بالنا لا ینزل علینا مثل ذلک إن کنت صادقاً
به؟ و الصحف جمع صحیفۀ، و هی الورقۀ التی من شأنها ان تقلب من جهۀ إلی جهۀ، لما فیها من الکتابۀ، و تجمع الصحیفۀ صحفاً و
صحائف، و منه مصحف و مصاحف. و النشر بسط ما کان مطویاً او ملتفاً من غیر التحام. و قیل: معناه إنهم یریدون صحفاً من اللَّه.
تعالی بالبراءة من العقوبۀ و إسباغ النعمۀ حتی یؤمنوا و إلا أقاموا علی أمرهم. و قیل: تفسیره ما ذکره اللَّه تعالی فی قوله (وَ لَنْ نُؤْمِنَ
فقال اللَّه تعالی (کلا) أي حقاً لیس الأمر علی ما قالوه (بَلْ لا یَخافُونَ) هؤلاء الکفار (الْآخِرَةَ) «1» ( لِرُقِیِّکَ حَتَّی تُنَزِّلَ عَلَیْنا کِتاباً نَقْرَؤُهُ
بجحدهم صحته. ثم قال (إِنَّهُ تَذْکِرَةٌ) یعنی القرآن تبصرة و موعظۀ لمن عمل به و اتعظ بما فیه، و هو قول قتادة. ثم قال (فَمَنْ شاءَ
ذَکَرَهُ) أي من شاء أن یتعظ بما فیه و هو یتذکر به، فعل، لأنه قادر علیه. ثم قال (وَ ما یَذْکُرُونَ إِلَّا أَنْ یَشاءَ اللَّهُ) من قرأ بالتاء، فعلی
الخطاب، و من قرأ بالیاء، فعلی الاخبار عنهم. و معناه لیس یتذکرون و لا یتعظون بالقرآن إلا ان یشاء اللَّه، و معناه إلا و اللَّه شاءه له،
لأنه طاعۀ و اللَّه یرید الطاعات من خلقه. و قوله (هُوَ أَهْلُ التَّقْوي وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) معناه هو اهل ان یتقی عقابه، و اهل ان یعمل بما
یؤدي الی مغفرته. و قیل: معناه هو اهل ان یغفر المعاصی إذا تاب المذنب من معاصیه.
__________________________________________________
1) سورة 17 الإسراء آیۀ 93 )
ص: 189
-75 سورة القیامۀ: ..... ص: 189
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و الضحاك و هی أربعون آیۀ فی الکوفی و تسع و ثلاثون فی البصري و المدنیین
[سورة القیامۀ ( 75 ): الآیات 1 الی 10 ] ..... ص: 189
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( لا أُقْسِمُ بِیَوْمِ الْقِیامَۀِ ( 1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَۀِ ( 2) أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ( 3) بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ( 4
( بَلْ یُرِیدُ الْإِنْسانُ لِیَفْجُرَ أَمامَهُ ( 5) یَسْئَلُ أَیَّانَ یَوْمُ الْقِیامَۀِ ( 6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ ( 8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ( 9
( یَقُولُ الْإِنْسانُ یَوْمَئِذٍ أَیْنَ الْمَفَرُّ ( 10
عشر آیات.
قرأ (برق) بفتح الراء اهل المدینۀ و أبان عن عاصم، الباقون بکسر الراء و قرأ القواس عن ابن کثیر (لأقسم) بإثبات القسم جعل اللام
لام تأکید، و اقسم، و الاختیار لمن قصد هذا (لأقسمن) و قد روي ذلک عن الحسن، قال: لان اللَّه تعالی اقسم بیوم القیامۀ، و لم یقسم
بالنفس اللوامۀ. و قال مقاتل: لم یقسم اللَّه تعالی ص: 190
بالقیامۀ إلا فی هذه السورة فقط. الباقون (لا اقسم) التقدیر بنفی الیمین فی اللفظ و اختلف فی ذلک النحویون فقال ابو عبیدة و
الکسائی (لا) صلۀ و التقدیر اقسم.
صفحۀ 105 من 233
و قال قوم (لا) تزیدها العرب لا ابتداء، لکن (لا) هاهنا رد لقوم أنکروا البعث و کفروا بالتنزیل. فقال اللَّه (لا) أي لیس کما تقولون. ثم
قال (أُقْسِمُ بِیَوْمِ الْقِیامَۀِ) قال ابن خالویه: (لا) تنقسم أربعین قسما ذکرته فی کل مفرد.
قوله (لا أُقْسِمُ) معناه اقسم و (لا) صلۀ فی قول سعید بن جبیر. و قال ابن عباس (لا) تأکید کقولک: لا و اللَّه. بلی و اللَّه ما کان کذا،
فکأنه قال لا، اقسم بیوم القیامۀ ما الأمر علی ما توهموه. و القسم تأکید الخبر بما جعله فی حیز المتحقق. و المعنی اقسم بیوم القیامۀ و
یوم القیامۀ هو النشأة الاخیرة التی تقوم فیها الناس من قبورهم للمجازاة، و بذلک سمیت القیامۀ، و یومها یوم عظیم، علی خطر عظیم
جسیم.
و قوله (وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَۀِ) قسم ثان، و معناه معنی الاول. و قال الحسن: أقسم تعالی بیوم القیامۀ و لم یقسم بالنفس اللوامۀ، بل
نفی ان یقسم بها.
قال الرمانی: و هذا یضعف، لأنه یخرج عن تشاکل الکلام. و قیل: ان جواب القسم محذوف، و تقدیره ما الامر علی ما تتوهمون. و
قال قوم: جواب القسم قوله (بَلی قادِرِینَ).
و اللوامۀ الکثیرة اللوم لقلۀ رضاها بالأمر و تمییز ما یرضی مما لا یرضی، و ما یلام علیه مما لا یلام علیه. و قال ابن عباس: اللوامۀ من
اللوم.
و قال مجاهد: تلوم علی ما مضی وفات. و قال قتادة: اللوامۀ الفاجرة، کأنه قال ذات اللوام الکثیر. و قال سعید بن جبیر: هی التی تلوم
علی الخیر و الشر و قیل: معناه لا صبر لها علی محن الدنیا و شدائدها، فهی کثیرة اللوم فیها. و قال ص:
191
الحسن: اللوامۀ هی التی تلوم نفسها علی ما ضیعت من حق اللَّه یوم القیامۀ، و هی نفس الکافر. و قیل: معناها أنها تلوم نفسها فی
الآخرة علی الشر لم عملته و علی الخیر هلا استکثرت منه.
و قوله (أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) صورته صورة الاستفهام و معناه الإنکار علی من أنکر البعث و النشور، فقال اللَّه له ا یظن
الإنسان الکافر أن لن نجمع عظامه و نعیده إلی ما کان أولا علیه. ثم قال: لیس الأمر علی ما ظنه (بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) قال
ابن عباس: یجعل بنانه کالخف و الحافر فیتناول المأکول بفیه، و لکننا مننا علیه. و قال قتادة کخف البعیر او حافر الدابۀ. و نصب
(قادرین) علی أحد وجهین:
أحدهما- علی تقدیر بلی نجمعها قادرین.
و الآخر- بلی نقدر قادرین إلا أنه لم یظهر (نقدر) لدلالۀ (قادرین) علیه، فاستغنی به. و قیل: معناه بلی قادرین علی ان نسوي بنانه حتی
نعیده علی ما کان علیه خلقاً سویاً.
و قوله (بَلْ یُرِیدُ الْإِنْسانُ لِیَفْجُرَ أَمامَهُ) اخبار منه ان الإنسان یفجر أمامه و معناه یمضی أمامه راکباً رأسه فی هواه- فی قول مجاهد- أي
فهذا الذي یحمله علی الاعراض عن مقدورات ربه، فلذلک لا یقر بالبعث و النشور. و قال الزجاج:
إنه یسوف بالتوبۀ و یقدم الاعمال السیئۀ. قال: و یجوز أن یکون المراد لیکفر بما قدامه من البعث بدلالۀ قوله (یَسْئَلُ أَیَّانَ یَوْمُ الْقِیامَۀِ)
فهو یفجر أمامه بأن یکذب بما قدامه من البعث. و قوله (یَسْئَلُ أَیَّانَ یَوْمُ الْقِیامَۀِ) معناه ان الذي یفجر أمامه یسأل متی یکون یوم
القیامۀ؟ فمعنی (أیان) (متی) إلا أن السؤال ب (متی) اکثر من السؤال ب (أیان)، فلذلک حسن ان یفسر بها لما دخلها من الإبهام الذي
یحتاج ص: 192
فیه الی بیان ما یتصل بها من الکلام. و السؤال علی ضربین: سؤال تعجیز، و سؤال طلب للتبیین.
و قوله (فَإِذا بَرِقَ الْبَ َ ص رُ) فالبرق اللمعان بالشعاع الذي لا یلبث، لأنه مأخوذ من البرق، یقال: برق یبرق برقاً، و إنما قیل (برق البصر) لان
ذلک یلحقه عند شدة الأمر، و البارقۀ الذین تلمع سیوفهم إذا جردوها کالبرق، و انشد ابو عبیدة للکلابی:
صفحۀ 106 من 233
«1» لما اتانی ابن عمیر راغباً أعطیته عیساً صهاباً فبرق
بکسر الراء و انشد الفراء:
نعانی حنانۀ طوباً له یسف یبساً من العشرق
«2» فنفسک قانع و لا تنعنی ودا و الکلوم و لا تبرق
بالفتح، أي لا تفزع من هول الجراح، و (حنانۀ) اسم رجل و (طوبا) له نعجۀ، و قال ابن خالویه: من کسر قال: لان (برق) بالفتح لا
یکون إلا فی الضوء یقال برق البرق إذا لمع، و برق الحنظل، فاما برق بالکسر، فمعناه تحیر، و الذي قاله اهل اللغۀ إنهما لغتان، و تقول
العرب، لکل داخل: برقۀ أي دهشۀ. و قال الزجاج: برق إذا فزع و برق إذا حار.
و قوله (وَ خَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب نوره بغیبۀ النور عن البصر، و خسف و کسف بمعنی کأنه یذهب نوره فی خسف من الأرض فلا
یري.
و قوله (وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ) أي جمعا فی ذهاب نورهما بما یراه الإنسان و الجمع جعل احد الشیئین مع الآخر. و الجمع علی ثلاثۀ
اقسام: جمع فی المکان، و جمع
__________________________________________________
94 / 277 و القرطبی 19 / 1) مجاز القرآن 2 )
2) قائله طرفۀ بن العبد دیوانه 70 (دار بیروت) البیت الثانی فقط )
ص: 193
فی الزمان، و جمع الاعراض فی المحل. و جمع الشیئین فی حکم او صفۀ مجاز.
و قوله (یَقُولُ الْإِنْسانُ یَوْمَئِذٍ أَیْنَ الْمَفَرُّ) اخبار من اللَّه تعالی بأن الإنسان یقول فی ذلک الوقت: این المهرب؟ و الفرار بفتح الفاء. و
روي عن ابن عباس (أین المفر) بکسر الفاء، قال الزجاج: المفر بفتح الفاء مصدر، و بالکسر مکان الفرار. و هذا سؤال تعجیز عن وجود
مفر یهرب الیه من عذاب اللَّه فی ذلک الیوم.
و قیل فیه معنی جواب هذا السائل، کأنه قیل یوم القیامۀ إذا برق البصر و خسف القمر و جمع الشمس و القمر. و المفر مصدر. و یجوز
فیه الکسر، و مثله مدب و مدب و قال البصریون: الکسر لمکان الفرار. و قال الفراء الفتح و الکسر لغتان.
قوله تعالی:[سورة القیامۀ ( 75 ): الآیات 11 الی 25 ] ..... ص: 193
کَلاَّ لا وَزَرَ ( 11 ) إِلی رَبِّکَ یَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) یُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ یَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ ( 14 ) وَ لَوْ أَلْقی
( مَعاذِیرَهُ ( 15
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا بَیانَهُ ( 19 ) کَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ
( الْعاجِلَۀَ ( 20
( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ( 22 ) إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ ( 23 ) وَ وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَنْ یُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ( 25
خمس عشرة آیۀ قرأ (کلا بل یحبون العاجلۀ و یذرون الآخرة) بالیاء فیهما ابن کثیر ص: 194
و ابو عمرو و ابن عامر علی وجه الاخبار عنهم. الباقون بالتاء علی وجه الخطاب لهم، لما حکی اللَّه تعالی عن الکافر انه یقول یوم
القیامۀ (این المفر) و المهرب حکی ما یقال له، فانه یقال له (کَلَّا لا وَزَرَ) أي لا ملجأ. و الوزر الملجأ من جبل یتحصن به او غیره من
الحصون المنیعۀ. و منه الوزیر المعین الذي یلجأ الیه فی الأمور، یقال وزرت الحائط إذا قویته بأساس یعتمد علیه. و قال ابن عباس و
مجاهد: لا وَزَرَ، معناه لا ملجأ. و قال الحسن: لا جبل، لان العرب إذا دهمتهم الخیل بغتۀ، قالوا: الوزر، یعنون الجبل، قال ابن الدمینۀ:
صفحۀ 107 من 233
«1» لعمرك ما للفتی من وزر من الموت ینجو به و الکبر
و قال الضحاك: معناه لا حصن. و قیل معناه لا منجا ینجو الیه، و هو مثل الملجأ. ثم قال تعالی (إِلی رَبِّکَ یَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)
أي المرجع الذي یقر فیه. و مثله المأوي و المثوي، و خلافه المرتحل. و المستقر علی وجهین: مستقر إلی أمد، و مستقر علی الأبد.
و قوله (یُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ یَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ)
أي یخبر بجمیع ما عمله، و ما ترکه من الطاعات و المعاصی، فالنبأ الخبر بما یعظم شأنه، و حسن فی هذا الموضع لان ما جري مجري
اللغو و المباح لا یعتد به فی هذا الباب. و إنما الذي یعظم شأنه من عمل الطاعۀ و المعصیۀ هو ما یستحق علیه الجزاء. فأما ما وجوده
کعدمه، فلا اعتبار به. و التقدیم ترتیب الشیء قبل غیره، و ضده التأخیر و هو ترتیب الشیء بعد غیره، و یکون التقدیم و التأخیر فی
الزمان، و فی المکان، و فی المرتبۀ، کتقدیم المخبر عنه فی المرتبۀ، و هو مؤخر فی الذکر، کقولک: فی الدار زید، و کذلک الضمیر
فی (غلامه ضرب زید) و هو مقدم فی اللفظ و مؤخر فی المرتبۀ. و قال ابن عباس: ینبأ بما قدم
__________________________________________________
96 / 277 و القرطبی 19 / 1) مجاز القرآن 2 )
ص: 195
من المعصیۀ و أخرّ من الطاعۀ. و قال مجاهد: یعنی بأول عمله و آخره. و قال ابن زید: ما أخذ و ترك. و فی روایۀ عن ابن عباس، و
هو قول ابن مسعود: بما قدم قبل موته، و ما اخر من سنۀ یعمل بها بعد موته، و قیل ما قدم و أخر جمیع أعماله التی یستحق بها الجزاء.
« بَلِ الْإِنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ » و قوله
اقْرَأْ کِتابَکَ کَفی » أي شاهد علی نفسه بما تقوم به الحجۀ- ذکره ابن عباس- کما یقال: فلان حجۀ علی نفسه. و قد قال تعالی
و الهاء فی «2» « یَوْمَ تَشْهَدُ عَلَیْهِمْ » و قال الزجاج: معناه بل الإنسان تشهد علیه جوارحه کما قال «1» « بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسِیباً
(بصیرة) مثل الهاء فی (علامۀ) للمبالغۀ. و قیل شهادة نفسه علیه أولی من اعتذاره. و قیل تقدیره بل الإنسان علی نفسه من نفسه بصیرة:
« وَ لَوْ أَلْقی مَعاذِیرَهُ » جوارحه شاهدة علیه یوم القیامۀ و لو اعتذر کان شاهداً علیه من یکذب عذره. و قوله
معناه و لو اقام الاعتذار عند الناس، و فی دار التکلیف و استسر بالمعاصی بإرخاء الستر. و قال ابن عباس: معناه و لو اعتذر. و قال
السدي: معناه و لو ارخی الستور و أغلق الأبواب. و قال الزجاج:
و «3» « لا یَنْفَعُ الظَّالِمِینَ مَعْذِرَتُهُمْ » معناه لو أتی بکل حجۀ عنده. و المعاذیر التنصل من الذنوب بذکر العذر، واحدها معذرة من قوله
قیل: المعاذیر ذکر مواقع تقطع عن الفعل المطلوب. و العذر منع یقطع عن الفعل بالأمر الذي یشق، و الاعتذار الاجتهاد فی تثبیت
العذر.
« لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ » و قوله
قال ابن عباس و سعید بن جبیر و الضحاك: کان النبی صلی اللَّه علیه و آله إذا نزل علیه القرآن عجل بتحریک لسانه لحبه إیاه،
__________________________________________________
1) سورة 17 الإسراء آیۀ 14 )
2) سورة 24 النور آیۀ 24 )
3) سورة 40 المؤمن آیۀ 52 )
ص: 196
فنهاه اللَّه عن ذلک.
و التحریک تغییر الشیء من مکان إلی مکان او من جهۀ الی جهۀ بفعل الحرکۀ فیه، و الحرکۀ ما به یتحرك المتحرك. و المتحرك
صفحۀ 108 من 233
هو المنتقل من جهۀ الی غیرها. و اللسان آلۀ الکلام. و العجلۀ طلب عمل الشیء قبل وقته الذي ینبغی أن یعمل فیه، و نقیضه الإبطاء، و
السرعۀ عمل الشیء فی أول وقته الذي هو له، و ضده الاناة.
« إِنَّ عَلَیْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ » و قوله
قال ابن عباس و الضحاك: معناه ان علینا جمعه فی صدرك، و قراءته علیک حتی یمکنک تلاوته. و قال قتادة: معناه إن علینا جمعه
فی صدرك و تألیفه علی ما نزل علیک. و قال ابن عباس- فی روایۀ اخري- إن معناه إن علینا بیانه من حلاله و حرامه بذکره لک. و
قال قتادة: معناه نذکر أحکامه و نبین لک معناه إذا حفظته. و قال البلخی: الذي أختاره انه لم یرد القرآن و إنما أراد قراءة العباد
لکتبهم یوم القیامۀ، لان ما قبله و بعده یدل علی ذلک، و لیس فیه شیء یدل علی انه القرآن، و لا علی شیء من أحکام الدنیا، و فی
ذلک تقریع للعبد و توبیخ له حین لا تنفعه العجلۀ. و القرآن من الضم و التألیف، قال عمرو بن کلثوم:
«1» ذراعی عیطل أدماء بکر هجان اللون لم تقرأ جنینا
« فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ » أي لم تضم رحماً علی ولد. و قوله
قال ابن عباس:
معناه إذا قرأناه أي تلوناه فاتبع قراءته بقرائتک، و قال قتادة و الضحاك: معناه بأن یعمل بما فیه من الأحکام و الحلال و الحرام. و قیل:
معناه فإذا قرأه جبرائیل علیک فاتبع قراءته. و الاتباع مراجعۀ الثانی للأول فی ما یقتضیه، و مثله الاقتداء و الاحتذاء و الائتمام، و نقیضه
الخلاف. و البیان إظهار المعنی للنفس بما یتمیز به من غیره بان الشیء یبین إذا ظهر و أبانه غیره أي أظهره بیاناً و إبانۀ، و نقیض البیان
__________________________________________________
238 / 1) مر تخریجه فی 2 )
ص: 197
معناه إنا نبین لک معناه إذا حفظته. « ثُمَّ إِنَّ عَلَیْنا بَیانَهُ » الإخفاء و الإغماض. و قال قتادة
وَ تَذَرُونَ » معناه الاخبار من اللَّه تعالی أن الکفار یریدون المنافع العاجلۀ و یرکنون الیها و یریدونها « کَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَۀَ » و قوله
أي و تترکون عمل الآخرة الذي یستحق به الثواب، و تفعلون ما یستحق به العقاب من المعاصی و المحارم. « الْآخِرَةَ
أي مشرقۀ مضیئۀ، فالنضرة الصورة الحسنۀ التی تملأ القلب سروراً « وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ ناضِ رَةٌ إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ » ثم قسم تعالی اهل الآخرة فقال
عند الرؤیۀ نضر وجهه ینضر نضرة و نضارة فهو ناضر. و النضرة مثل البهجۀ و الطلاقۀ، و ضده العبوس و البسور، فوجوه المؤمنین
إِلی » المستحقین للثواب بهذه الصفۀ بما جعل اللَّه علیها من النور علامۀ للخلق، و الملائکۀ علی انهم مؤمنون مستحقون الثواب. و قوله
و لیس فی ذلک تنغیص « ناظرة » ثواب ربها « الی » أي مشرفۀ « ناضرة » معناه منتظرة نعمۀ ربها و ثوابه ان یصل الیهم. و قیل « رَبِّها ناظِرَةٌ
لان الانتظار إنما یکون فیه تنغیص إذا کان لا یوثق بوصوله الی المنتظر أو هو محتاج الیه فی الحال.
و المؤمنون بخلاف ذلک، لأنهم فی الحال مستغنون منعمون، و هم ایضاً واثقون انهم یصلون الی الثواب المنتظر. و النظر هو تقلیب
أي منتظرة «1» « وَ إِنِّی مُرْسِلَۀٌ إِلَیْهِمْ بِهَدِیَّۀٍ فَناظِرَةٌ » الحدقۀ الصحیۀ نحو المرئی طلبا للرؤیۀ و یکون النظر بمعنی الانتظار، کما قال تعالی
و قال الشاعر:
«2» وجوه یوم بدر ناظرات الی الرحمن تأتی بالفلاح
أي منتظرة للرحمۀ التی تنزل علیهم، و قد یقول القائل: انما عینی ممدودة
__________________________________________________
1) سورة 27 النمل آیۀ 35 )
229 / 2) مر فی 1 )
صفحۀ 109 من 233
ص: 198
معناه لا ینیلهم «1» « وَ لا یَنْظُرُ إِلَیْهِمْ یَوْمَ الْقِیامَۀِ » الی اللَّه، و الی فلان، و انظر الیه أي انتظر خیره و نفعه و أؤمل ذلک من جهته، و قوله
رحمته. و یکون النظر بمعنی المقابلۀ، و منه المناظرة فی الجدل، و منه نظر الرحمۀ أي قابله بالرحمۀ، و یقال: دور بنی فلان تتناظر أي
تتقابل، و هو ینظر الی فلان أي یؤمله و ینتظر خیره، و لیس النظر بمعنی الرؤیۀ أصلا، بدلالۀ انهم یقولون: نظرت الی الهلال فلم أره
فلو کان بمعنی الرؤیۀ لکان متناقضاً، و لأنهم یجعلون الرؤیۀ غایۀ للنظر یقولون: ما زلت أنظر الیه حتی رأیته، و لا یجعل الشیء غایۀ
لنفسه لا یقال: ما زلت أراه حتی رأیته، و یعلم الناظر ناظراً ضرورة، و لا یعلم کونه رائیاً بل یسأل بعد ذلک هل رأیت أم لا؟
فی الآیۀ لا یدل علی ان المراد بالنظر الرؤیۀ، و لا تعلیقه بالوجوه یدل علی ذلک، لأنا أنشدنا البیت، و فیه تعلیق النظر « الی » و دخول
بالوجه و تعدیه بحرف (الی) و المراد به الانتظار، و قال جمیل بن معمر:
«2» و إذا نظرت الیک من ملک و البحر دونک جرتنی نعماء
فالمؤمنون یؤمنون بتجدید « تَظُنُّ أَنْ یُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ » و المراد به الانتظار و التأمیل، و ایضاً، فانه فی مقابلۀ قوله فی صفۀ اهل النار
الکرامۀ و ینتظرون الثواب، و الکفار یظنون الفاقرة، و کله راجع الی فعل القلب، و لو سلمنا أن النظر یعد الرؤیۀ لجاز أن یکون المراد
أنها رؤیۀ ثواب ربها، لأن الثواب الذي هو انواع اللذات من المأکول و المشروب و المنکوح تصح رؤیته، و یجوز ایضاً أن یکون إلی
واحد إلآلاء و فی واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (ألی) مثل معی و (إلی) مثل حدي و (ألی) مثل حسی، فإذا أضیف الی غیره سقط
التنوین، و لا یکون (الی) حرفاً فی الآیۀ و کل ذلک یبطل قول من أجاز الرؤیۀ علی اللَّه تعالی.
__________________________________________________
1) سورة 3 آل عمران آیۀ 77 )
229 / 2) مر فی 1 )
ص: 199
و لیس لأحد ان یقول: إن الوجه الأخیر یخالف الإجماع، أعنی اجماع المفسرین، و ذلک لأنا لا نسلم لهم ذلک، بل قد قال مجاهد و
ابو صالح و الحسن و سعید بن جبیر و الضحاك:
إن المراد نظر الثواب. و روي مثله عن علی علیه السلام،
و قد فرق اهل اللغۀ بین نظر الغضبان و نظر الراضی، یقولون: نظر غضبان، و نظر راض، و نظر عداوة، و نظر موّدة، قال الشاعر:
تخبرنی العینان ما الصدر کاتم و لا حن بالبغضاء و النظر الشزر
و الرؤیۀ لیست کذلک فإنهم لا یضیفونها، فدل علی أن النظر غیر الرؤیۀ، و المرئی هو المدرك، و الرؤیۀ هی الإدراك بالبصر، و
الرائی هو المدرك، و لا تصح الرؤیۀ و هی الإدراك إلا علی الأجسام او الجوهر او الألوان. و من شرط المرئی أن یکون هو او محله
وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ » مقابلا او فی حکم المقابل، و ذلک یستحیل علیه تعالی، فکیف تجیز الرؤیۀ علیه تعالی؟!!! ثم ذکر القسم الآخر فقال
یعنی وجوه اهل الکفر. و البسور ظهور حال الغم فی الوجه معجلا قبل الاخبار عنه و مثله العبوس إلا انه « باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ یُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ
لیس فیه معنی التعجیل. و الفاقرة الکاسرة لفقار الظهر بشدة و مثل الفاقرة الداهیۀ و الآبدة. و قال الحسن: ناظرة بهجۀ حسنۀ. و قال
مجاهد:
مسرورة. و قال ابن زید: ناعمۀ. و قال مجاهد و قتادة: معنی باسرة کاشرة کالحۀ.
و قال مجاهد: الفاقرة الداهیۀ. و قال ابن زید الآبدة بدخول النار.
قوله تعالی:[سورة القیامۀ ( 75 ): الآیات 26 الی 40 ] ..... ص: 199
صفحۀ 110 من 233
( کَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِیَ ( 26 ) وَ قِیلَ مَنْ راقٍ ( 27 ) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ( 28 ) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلی رَبِّکَ یَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ( 30
( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّی ( 31 ) وَ لکِنْ کَذَّبَ وَ تَوَلَّی ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلی أَهْلِهِ یَتَمَطَّی ( 33 ) أَوْلی لَکَ فَأَوْلی ( 34 ) ثُمَّ أَوْلی لَکَ فَأَوْلی ( 35
أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ یُتْرَكَ سُديً ( 36 ) أَ لَمْ یَکُ نُطْفَۀً مِنْ مَنِیٍّ یُمْنی ( 37 ) ثُمَّ کانَ عَلَقَۀً فَخَلَقَ فَسَوَّي ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَیْنِ الذَّکَرَ وَ
( الْأُنْثی ( 39 ) أَ لَیْسَ ذلِکَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یُحْیِیَ الْمَوْتی ( 40
ص: 200
خمس عشرة آیۀ.
بالیاء علی التذکیر رّدوه إلی المنی. الباقون بالتاء حملا علی النطفۀ. « من منی یمنی » قرأ ابن عامر و حفص و رویس
یعنی علی «1» « ما تَرَكَ عَلی ظَهْرِها » یعنی النفس أو الروح، و لم یذکر لدلالۀ الکلام علیه کما قال « کَلَّا إِذا بَلَغَتِ » یقول اللَّه تعالی
جمع ترقوة، و هی مقدم الحلق من أعلی الصدر، تترقی الیه النفس عند « التَّراقِیَ » ظهر الأرض. و إنما لم یذکر لعلم المخاطب به، و
« وَ قِیلَ مَنْ راقٍ » الموت، و الیها یترقی البخار من الجوف، و هناك تقع الحشرجۀ، و قوله
فالراق طالب الشفاء یقال: رقاه یرقیه رقیۀ إذا طلب له شفاء بأسماء اللَّه الجلیلۀ و آیات کتابه العظیمۀ، و أما العوذة فهی رفع البلیۀ
« راقٍ » بکلمات اللَّه تعالی. و قال ابو قلابۀ و الضحاك و ابن زید و قتادة: معنی
طبیب شاف.
أي اهله یطلبون له من یطببه و یشفیه و یداویه فلا یجدونه. و قال ابن عباس و ابو الجوزاء: معناه قالت الملائکۀ: من یرقا بروحه أ
ملائکۀ الرحمۀ أم ملائکۀ العقاب.
__________________________________________________
1) سورة 35 فاطر آیۀ 45 )
ص: 201
و قال الضحاك: أهل الدنیا یجهزون البدن، و أهل الآخرة یجهزون الروح.
معناه علم عند ذلک انه فراق الدنیا و الأهل و المال و الولد. و الفراق بعاد الالاف و هو ضد الوصال یقال: « وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ » و قوله
فارقه یفارقه فراقاً.
و قد صار علماً علی تفرق الأحباب و تشتت الالاف.
قال ابن عباس و مجاهد: معناه التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنیا. و قال الحسن: التفت حال الموت « وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ » و قوله
بحال الحیاة. و قال الشعبی و ابو مالک: التفت ساقا الإنسان عند الموت- و فی روایۀ أخري عن الحسن- انه قال: التفات الساقین فی
الکفن. و قیل: ساق الدنیا بساق الآخرة و هو شدة کرب الموت بشدة هول المطلع. و قال الحسن: معناه التفت شدة أمر الدنیا بشدة أمر
الآخرة. و قیل: معناه اشتداد الأمر عند نزع النفس حتی التفت ساق علی ساق عند تلک الحال، یقولون: قامت الحرب علی ساق عند
شدة الأمر قال الشاعر:
«1» فإذا شمرت لک عن ساقها فویهاً ربیع و لا تسأم
معناه إن الخلائق یساقون إلی المحشر الذي لا یملک فیه الأمر و النهی غیر اللَّه. و المساق مصدر « إِلی رَبِّکَ یَوْمَئِذٍ الْمَساقُ » و قوله
مثل السوق.
« فَلا صَدَّقَ » عن طاعته. و قال قوم « وَ تَوَلَّی » باللَّه « وَ لکِنْ کَذَّبَ » قال الحسن: معناه لم یتصدق و لم یصل « فَلا صَدَّقَ وَ لا صَ لَّی » و قوله
فَلا » عن طاعته. و قال قوم: معناه « وَ تَوَلَّی » به « وَ لکِنْ کَ ذَّبَ » و قال قتادة: معناه فلا صدق بکتاب اللَّه و لا صلی للَّه « وَ لا صَ لَّی » بربه
بتوحید اللَّه، و لا نبیه بل کذب به. « صَدَّقَ
صفحۀ 111 من 233
و الصدقۀ العطیۀ للفقراء و الزکاة الصدقۀ الواجبۀ علی المال المعلق بنصاب مخصوص.
__________________________________________________
[.....] 87 / 107 و قد مر فی 10 / 1) تفسیر الطبري 29 )
ص: 202
و الصلاة عبادة أولها التکبیر و آخرها التسلیم، و فیها قراءة و أرکان مخصوصۀ. و التولی هو الاعراض عن الشیء، فلما کان هذا
الجاهل معرضاً عن الحق بترکه الی خلافه من الباطل لزمه الذم بهذا الوصف.
فالتمطی تمدد البدن من الکسل إما کسل مرض او کسل تثاقل عن الامر. و الذم بکسل التثاقل عن « ثُمَّ ذَهَبَ إِلی أَهْلِهِ یَتَمَطَّی » و قوله
الداعی الی الحق. و قال مجاهد و قتادة: معنی یتمطی یتختر. و قیل: الأصل فی یتمطی یلوي مطاه، و المطا الظهر، و نهی عن مشیۀ
المطیطیا، و ذلک ان یلقی الرجل بدنه مع التکفی فی مشیه.
و قیل: نزلت الآیۀ فی أبی جهل بن هشام بن المغیرة المخزومی.
ولیک الشر یا أبا جهل، و قیل: « أَوْلی لَکَ » قال قتادة: هو وعید علی وعید. و قیل معنی « أَوْلی لَکَ فَأَوْلی ثُمَّ أَوْلی لَکَ فَأَوْلی » و قوله
معناه الذم اولی لک من ترکه إلا انه حذف، و کثر فی الکلام حتی صار بمنزلۀ الویل لک. و صار من المتروك المحذوف الذي لا
یجوز إظهاره. و قیل أولی لک، فاولی لک علی الاول و الذم لک علی الثانی و الثالث. و الأولی فی العقل هو الاحق بالقرب من داعی
العقل، کأنه أحق بولیه.
أَنْ » و معناه أ یظن الإنسان الکافر بالبعث و النشور الجاحد لنعم اللَّه « أَ یَحْسَبُ الْإِنْسانُ » ثم قال علی وجه الوعید و التهدید للکفار
و معناه أن یترك مهملا عن الأمر و النهی، فالسدي همل من غیر أمر یؤخذ به، و یکون فیه تقویم له، و إصلاح لما هو « یُتْرَكَ سُديً
أعود علیه فی عاقبۀ أمره و أجمل به فی دنیاه و آخرته.
أي هملا لا یؤمر و لا ینهی. « أَنْ یُتْرَكَ سُديً » و قال ابن عباس و مجاهد: معنی
و قیل: أ یحسب الإنسان أن یترك مهملا فلا یؤمر و لا ینهی مع کمال عقله و قدرته.
ثم قال علی وجه التنبیه علی أن اللَّه خلقه للتکلیف و العبادة، و علی انه قادر ص: 203
أي قطعۀ من « ثُمَّ کانَ عَلَقَۀً » فالمنی نطفۀ الذکر التی یجیئ منها الولد « أَ لَمْ یَکُ نُطْفَۀً مِنْ مَنِیٍّ یُمْنی » علی إعادته و احیائه بعد موته
« فَخَلَقَ فَسَوَّي » الدم المنعقد جامدة لا تجري فخلق اللَّه منها هذا الإنسان الذي هو فی احسن تقویم، فسبحان من قدر علی ذلک. و قوله
أي خلق من العلقۀ خلق سویا شق له السمع و البصر. و قال الفراء:
فمن قدر علی ذلک لا یقدر علی ان یحیی الموتی بعد ان « الزَّوْجَیْنِ الذَّکَرَ وَ الْأُنْثی » من ذلک المنی « فَجَعَلَ مِنْهُ » فسواه « فسوي » معنی
کانوا أحیاء؟! بلی و اللَّه قادر علی ذلک، لان جعل النطفۀ علقۀ و خلق العلقۀ مضغۀ و خلق المضغۀ عظماً و کسو العظم لحماً ثم إنشاؤه
خلقاً آخر حیاً سلیماً مرکباً فیه الحواس الخمس کل واحدة منها یصلح لما لا یصلح له الاخري، و خلق الذکر و الأنثی اللذین یصح
منهما التناسل علی ما قدره اللَّه أعجب و أبدع من اعادة المیت الی ما کان من کونه حیاً، فمن قدر علی الأول أولی بأن یکون قادراً
علی الثانی، فالاحیاء إیجاد الحیاة، و الاماتۀ إیجاد الموت عند من قال أن الموت معنی، و من قال: لیس بمعنی، قال: هو نقض بنیۀ
الحی علی وجه الاختراع.
و قال « أَ لَیْسَ ذلِکَ بِقادِرٍ عَلی أَنْ یُحْیِیَ الْمَوْتی » و قیل من المنی « الزَّوْجَیْنِ الذَّکَرَ وَ الْأُنْثی » قیل یعنی من الإنسان « فَجَعَلَ مِنْهُ » و قوله
قتادة:
کان رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله إذا ختم السورة، یقول: سبحانک اللَّه بلی، و هو المروي عن أبی جعفر و أبی عبد اللَّه علیهما
السلام
صفحۀ 112 من 233
و فی الآیۀ دلالۀ علی صحۀ القیاس العقلی، و هو أن من قدر علی احیاء الإنسان قادر علی احیائه بعد الاماتۀ، و قال الفراء: یجوز فی
العربیۀ یحیی الموتی بالإدغام: بأن ینقل الحرکۀ الی الحاء و تدغم احدي الیاءین فی الاخري و انشد:
«1» و کأنها بین النساء سبیکۀ تمشی بسدة بیتها بتعیّ
__________________________________________________
147 / 1) مر فی 5 )
ص: 204
-76 سورة الدهر: ..... ص: 204
اشارة
و تسمی سورة الإنسان، و تسمی سورة الأبرار، و هی مکیۀ فی قول ابن عباس و الضحاك و غیرهما. و قال قوم: هی مدنیۀ و هی
احدي و ثلاثون آیۀ بلا خلاف
[سورة الإنسان ( 76 ): الآیات 1 الی 10 ] ..... ص: 204
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
هَلْ أَتی عَلَی الْإِنْسانِ حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ یَکُنْ شَیْئاً مَذْکُوراً ( 1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَۀٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِیهِ فَجَعَلْناهُ سَمِیعاً بَصِ یراً ( 2) إِنَّا
( هَدَیْناهُ السَّبِیلَ إِمَّا شاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً ( 3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْکافِرِینَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِیراً ( 4
إِنَّ الْأَبْرارَ یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ کانَ مِزاجُها کافُوراً ( 5) عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ یُفَجِّرُونَها تَفْجِیراً ( 6) یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ یَخافُونَ یَوْماً کانَ
( شَرُّهُ مُسْتَطِیراً ( 7) وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً ( 8) إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً وَ لا شُکُوراً ( 9
( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا یَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِیراً ( 10
عشر آیات.
منوناً نافع و الکسائی و ابو بکر عن عاصم اتباعا للمصحف ص: 205 « سلاسلا » قرأ
و لتشاکل ما جاوره من رأس الآیۀ. الباقون بغیر تنوین، لان مثل هذا الجمع لا ینصرف فی معرفۀ و لا فی نکرة، لأنه علی (فعائل) بعد
الفه حرفان.
یعنی قد کان « حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ یَکُنْ شَیْئاً مَذْکُوراً » قال الزجاج: معناه أ لم یأت علی الإنسان « هَلْ أَتی عَلَی الْإِنْسانِ » یقول اللَّه تعالی
شیئاً إلا انه لم یکن مذکوراً، لأنه کان تراباً و طیناً الی أن نفخ فیه الروح. و قال قوم (هل) یحتمل معناه أمرین: أحدهما- أن یکون
بمعنی (قد أتی) و الثانی أن یکون معناها اتی علی الإنسان، و الأغلب علیها الاستفهام و الأصل فیها معنی (قد) لتجري علی نظائرها
بمعنی ضمن معنی الالف و أصله من ذلک قول الشاعر:
أم هل کبیر بکی لم تقض عبرته أثر الأحبۀ یوم البین مشکوم
و به قال قتادة و سفیان. و قیل: ان آدم « حِینٌ مِنَ الدَّهْرِ » و المعنی بالإنسان- هاهنا- آدم- فی قول الحسن- و المعنی قد أتی علی آدم
لما خلق اللَّه جثته بقی أربعین سنۀ لم تلج فیه الروح کان شیئاً، و لم یکن مذکوراً، فلما نفخ فیه الروح و بلغ إلی ساقه کاد ینهض
و قال غیره: هو واقع علی «1» ( للقیام، فلما بلغ عینیه و رأي ثمار الجنۀ بادر الیها لیأخذها فلذلک قال اللَّه تعالی (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ
کل إنسان، و الإنسان فی اللغۀ حیوان علی صورة الانسانیۀ، و قد تکون الصورة الانسانیۀ، و لا إنسان، و قد یکون حیوان و لا إنسان،
صفحۀ 113 من 233
فإذا حصل المعنیان صح إنسان لا محالۀ. و الإنسان حیوان منتصب القامۀ علی صورة تنفصل من کل بهیمۀ.
أي وقت «2» « فَسُبْحانَ اللَّهِ حِینَ تُمْسُونَ وَ حِینَ تُصْ بِحُونَ » و (الحین) مدة من الزمان، و قد یقع علی القلیل و الکثیر. قال اللَّه سبحانه
تمسون و وقت تصبحون. و قال (تُؤْتِی أُکُلَها کُلَّ حِینٍ) یعنی کل ستۀ أشهر، و قال قوم: کل سنۀ. و قال- هاهنا
__________________________________________________
1) سورة 21 الأنبیاء آیۀ 37 )
2) سورة 30 الروم آیۀ 17 )
ص: 206
(هَلْ أَتی عَلَی الْإِنْسانِ حِینٌ) أي مدة طویلۀ. و الدهر مرور اللیل و النهار و جمعه أدهر و دهور، و الفرق بین الدهر و الوقت أن الوقت
مضمن بجعل جاعل، لان اللَّه جعل لکل صلاة مفروضۀ وقتاً، و جعل للصیام وقتاً معیناً، و قد یجعل الإنسان لنفسه وقتاً یدرس فیه ما
یحتاج إلی درسه و وقتاً مخصوصاً لغذائه.
و قوله (لَمْ یَکُنْ شَیْئاً مَذْکُوراً) أي لم یکن ممن ذکره ذاکر، لأنه کان معدوماً غیر موجود. و فی الآیۀ دلالۀ علی أن المعدوم لا یسمی
شیئاً، و إنما سمی زلزلۀ الساعۀ شیئاً مجازاً. و المعنی إنها إذا وجدت کانت شیئاً عظیماً.
و قوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَۀٍ) اخبار من اللَّه تعالی أنه خلق الإنسان سوي آدم و حواء من نطفۀ، و هو ماء الرجل و المرأة الذي
یخلق منهما الولد، فالنطفۀ الماء القلیل فی أناء کان او غیر إناء قال الشاعر:
و ما النفس إلا نطفۀ بقرارة إذا لم تکدّر صار صفواً غدیرها
و قوله (أَمْشاجٍ) قال ابن عباس أخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة. و قال الحسن و الربیع بن أنس و مجاهد مثل ذلک. و قال قتادة:
معنی أمشاج أطوار طوراً نطفۀ و طوراً مضغۀ و طوراً عظماً إلی أن صار إنساناً لیختبره بهذه الصفات. و قال مجاهد: معناه ألوان النطفۀ.
و قال عبد اللَّه: عروق النطفۀ و واحد الأمشاج مشیج، و هو الخلط، و سمی النطفۀ بذلک، لأنه جعل فیها اخلاطاً من الطبائع التی تکون
فی الإنسان من الحرارة و البرودة و الیبوسۀ و الرطوبۀ. ثم عداها له، ثم بناه البنیۀ الحیوانیۀ المعدلۀ الاخلاط. ثم جعل فیها الحیاة ثم شق
له السمع و البصر فتبارك اللَّه رب العالمین، و ذلک قوله (فَجَعَلْناهُ سَمِیعاً بَصِیراً).
و قوله (نَبْتَلِیهِ) أي نختبره بما نکلفه من الافعال الشاقۀ لننظر ما طاعته و ما عصیانه فنجازیه بحسب ذلک، و یقال مشجت هذا بهذا إذا
اخلطته به، و هو ممشوج به ص: 207
و مشیج أي مخلوط به قال رؤبۀ:
«1» یطرحن کل معجل نشاج لم تکس جلداً فی دم أمشاج
و قال ابو ذؤیب:
«2» کأن الریش و الفوقین منه خلاف النصل سیط به مشیج
و قوله (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ) معناه انا أرشدناه إلی سبیل الحق و بیناه له و دللناه علیه. و قال الفراء: معناه هدیناه إلی السبیل أو للسبیل. و
المعنی واحد.
و قوله (إِمَّا شاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً) قال الفراء: معناه إن شکر و إن کفر علی الجزاء و یجوز أن یکون مثل قوله (إِمَّا یُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا یَتُوبُ
و المعنی اما یختار بحسن اختیاره الشکر للَّه تعالی و الاعتراف بنعمه فیصیب الحق، و اما أن یکفر نعمه و یجحد إحسانه «3» ( عَلَیْهِمْ
فیکون ضالا عن الصواب، و لیس المعنی انه مخیر فی ذلک، و إنما خرج ذلک مخرج التهدید، کما قال (فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ
بدلالۀ قوله (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِینَ ناراً) و إنما المراد البیان عن انه قادر علیهما فأیهما اختار جوزي بحسبه. «4» ( فَلْیَکْفُرْ
و فی الآیۀ دلالۀ علی انه تعالی قد هدي جمیع خلقه المکلفین، لأن قوله (إِنَّا هَدَیْناهُ السَّبِیلَ) عام فی جملتهم و ذلک یبطل قول
صفحۀ 114 من 233
المجبرة: إن اللَّه لم یهد الکافر بنصب الدلالۀ له علی طریق الحق و اجتناب الباطل، و لیس کل من ترك الشکر کان کافراً، لأنه قد
یترك فی بعض الأحوال علی سبیل التطوع، لان الشکر قد یکون تطوعاً کما یکون واجباً، و إنما لم یذکر اللَّه الفاسق، لأنه اقتصر علی
أعظم الحالین
__________________________________________________
109 / 279 و الطبري 29 / 1) مجاز القرآن 2 )
119 / 279 و القرطبی 19 / 2) مجاز القرآن 2 )
3) سورة 9 التوبۀ آیۀ 107 )
4) سورة 18 الکهف آیۀ 29 )
ص: 208
و ألحق الأدون علی التبع، و یجوز أن یدخل فی الجملۀ، و لا یفرد، فلیس للخوارج أن یتعلقوا بذلک فی انه لیس بین الکفر و الایمان
واسطۀ. ثم بین انه تعالی إنما ذکره علی وجه التهدید بقوله (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْکافِرِینَ) أي ادخرنا لهم جزاء علی کفرهم و معاصیهم و
عقوبۀ لهم (سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَ عِیراً) یعذبهم بها و یعاقبهم فیها، و السلاسل جمع سلسلۀ و الاغلال جمع غل، و السعیر هی النار
المسعرة الملهبۀ.
و لما اخبر بما للکافرین من العقوبات علی کفرهم، ذکر ایضاً ما للمؤمنین علی إیمانهم فقال (إِنَّ الْأَبْرارَ) و هو جمع البر، و هو المطیع
للَّه المحسن فی أفعاله (یَشْرَبُونَ مِنْ کَأْسٍ) و الکأس إناء الشراب إذا کان فیه، و لا یسمی کأساً إذا لم یکن فیه شراب- ذکره الزجاج-
قال الشاعر:
«1» صددت الکأس عنا أم عمرو و کان الکأس مجراها الیمینا
و قوله (کانَ مِزاجُها کافُوراً) قیل ما یشم من ریحها لا من جهۀ طعمها.
و قوله (عَیْناً یَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ) قوله (عَیْناً) نصب علی البدل من (کافُوراً) و یجوز أن یکون علی تقدیر و یشربون عیناً، و یجوز أن
یکون نصباً علی الحال من (مِزاجُها) و قال الزجاج: معناه من عین. و قال الفراء: شربها و شرب منها سواء فی المعنی کما یقولون:
تکلمت بکلام حسن و کلاماً حسناً. و قیل: یمزج بالکافور، و یختم بالمسک و قیل: تقدیره یشربون بها و أنشد الفراء:
«2» شربن بماء البحر ثم ترفعت متی لجج خضر لهن نئیج
متی لجج. أي من لجج. و عین الماء حفیرة فی الأرض ینبع منها، و هذه العین المذکورة فی أرض الجنۀ فی کونها فوارة بالماء متعۀ
لأهلها. ثم یفجر فیجري لهم
__________________________________________________
336 / 123 و الشوکانی 5 / 1) القرطبی 19 )
125 / 112 و القرطبی 19 / 2) الطبري 29 )
ص: 209
إلی حیث شاءوا منها. قال مجاهد: معناه إنهم یقودونها حیث شاءوا و التفجیر تشقیق الأرض یجري الماء و منه انفجار الصبح، و هو
انشقاقه من الضوء، و منه الفجور، و هو الخروج من شق الالتئام إلی الفساد. و عباد اللَّه المراد به المؤمنون المستحقون للثواب ثم
وصف هؤلاء المؤمنین فقال (یُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ یَخافُونَ) و یجوز أن یکون ذلک فی موضع الحال، فکأنه قال یشرب بها عباد اللَّه
الموفون بالنذر الخائفون (یَوْماً کانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیراً) فالمستطیر الظاهر. و التقدیر القائلون إِنَّما نُطْعِمُکُمْ القائلون إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا یَوْماً
عَبُوساً قَمْطَرِیراً، و یجوز ان یکون علی الاستئناف، و تقدیره هم الذین یوفون بالنذر و کذلک فی ما بعد، فالوفاء بالنذر هو أن یفعل ما
صفحۀ 115 من 233
أي الصحیحۀ، لأنه لا «1» ( نذر علیه فالوفاء إمضاء العقد علی الأمر الذي یدعو الیه العقل، و منه قوله (یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
یلزم أحداً أن یفی بعقد فاسد، و کل عقد صحیح یجب الوفاء به، یقال أوفی بالعقد، و وفی به، فأوفی لغۀ أهل الحجاز و هی لغۀ
القرآن، و (وفی) لغۀ أهل تمیم و اهل نجد. و قد بینا فیما مضی شواهده.
و النذر عقد علی فعل علی وجه البر بوقوع أمر یخاف ألا یقع، نذر ینذر نذراً فهو ناذر، و قال عنترة:
«2» الشاتمی عرضی و لم أشتمهما و الناذرین إذا لم ألقهما دمی
أي یقولان: لئن لقینا عنترة لنقتلنه، و منه الانذار و هو الاعلام بموضع المخافۀ لیعقد علی التحرز منها. و
روي عن النبی صلی الله علیه و آله انه قال (لا نذر فی معصیۀ)
و عند الفقهاء إن کفارة النذر مثل کفارة الیمین. و الذي
رواه أصحابنا إن کفارة النذر مثل کفارة الظهار
، فان لم یقدر علیه کان علیه کفارة الیمین. و المعنی انه إذا
__________________________________________________
1) سورة 5 المائدة آیۀ 1 )
526 / 2) مر فی 4 )
ص: 210
فات الوقت الذي نذر فیه صار بمنزلۀ الحنث.
و قوله (وَ یَخافُونَ یَوْماً) من صفۀ المؤمنین (کانَ شَرُّهُ مُسْتَطِیراً) أي منتشراً فاشیاً ذاهباً فی الجهات بلغ أقصی المبالغ، قال الأعشی:
«1» فبانت و قد أورثت فی الفؤا د صدعاً علی نأیها مستطیرا
و المراد بالشر- هاهنا- أهوال القیامۀ و شدائدها.
و قوله (وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ) قال مجاهد: معناه علی شهوتهم له، و یحتمل أن یکون المراد علی محبتهم للَّه (مِسْکِیناً) أي
یطعمونه فقیراً (وَ یَتِیماً) و هو الذي لا والد له من الأطفال (وَ أَسِیراً) و الأسیر هو المأخوذ من أهل دار الحرب- فی قول قتادة- و قال
مجاهد: و هو المحبوس. و قوله (إِنَّما نُطْعِمُکُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) اخبار عما یقوله المؤمنون بأنا إنما نطعمکم معاشر الفقراء و الیتامی و الأسري
لوجه اللَّه، و معناه للَّه، و ذکر الوجه لذکره بأشرف الذکر تعظیماً له، و منه قوله (فَأَیْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) و قیل: معناه فثم جهۀ اللَّه
أي و یبقی اللَّه. و قال مجاهد و سعید بن جبیر: علم اللَّه ما فی قلوبهم فأثنی علیهم «2» ( التی ولاکم الیها و منه قوله (وَ یَبْقی وَجْهُ رَبِّکَ
من غیر أن یتکلموا به (لا نُرِیدُ مِنْکُمْ جَزاءً) أي لا نطلب بهذا الإطعام مکافأة عاجلۀ (وَ لا شُکُوراً) أي لا نطلب أن تشکرونا علیه عند
الخلائق بل فعلناه للَّه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) أي من عقابه (یَوْماً عَبُوساً) أي مکفهراً عابساً (قَمْطَرِیراً) أي شدیداً، و القمطریر الشدید فی
الشر. و قد اقمطر الیوم اقمطراراً، و ذلک أشد الأیام و أطوله فی البلاء و الشر، و یوم قمطریر و قماطیر کأنه قد التف شر بعضه علی
بعض، قال الشاعر:
__________________________________________________
1) دیوانه 85 (دار بیروت) )
2) سورة 55 الرحمن آیۀ 27 )
ص: 211
«1» بنی عمنا هل تذکرون بلاءنا علیکم إذا ما کان یوم قماطر
و
صفحۀ 116 من 233
قد روت الخاصۀ و العامۀ أن هذه الآیات نزلت فی علی علیه السلام و فاطمۀ و الحسن و الحسین علیهم السلام، فإنهم آثروا المسکین
و الیتیم و الأسیر ثلاث لیال علی إفطارهم و طووا علیهم السلام، و لم یفطروا علی شیء من الطعام فأثنی اللَّه علیهم هذا الثناء الحسن، و
أنزل فیهم هذه السورة
و کفاك بذلک فضیلۀ جزیلۀ تتلی الی یوم القیامۀ، و هذا یدل علی أن السورة مدنیۀ.
قوله تعالی:[سورة الإنسان ( 76 ): الآیات 11 الی 20 ] ..... ص: 211
فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِکَ الْیَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ( 11 ) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّۀً وَ حَرِیراً ( 12 ) مُتَّکِئِینَ فِیها عَلَی الْأَرائِکِ لا یَرَوْنَ فِیها
( شَمْساً وَ لا زَمْهَرِیراً ( 13 ) وَ دانِیَۀً عَلَیْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِیلًا ( 14 ) وَ یُطافُ عَلَیْهِمْ بِآنِیَۀٍ مِنْ فِضَّۀٍ وَ أَکْوابٍ کانَتْ قَوارِیرَا ( 15
قَوارِیرَا مِنْ فِضَّۀٍ قَدَّرُوها تَقْدِیراً ( 16 ) وَ یُسْقَوْنَ فِیها کَأْساً کانَ مِزاجُها زَنْجَبِیلًا ( 17 ) عَیْناً فِیها تُسَ مَّی سَلْسَبِیلًا ( 18 ) وَ یَطُوفُ عَلَیْهِمْ
( وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَیْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ( 19 ) وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً ( 20
عشر آیات.
قرأ الشعبی و عبید بن عمیر (قدروها) بضم القاف. الباقون بفتحها. من فتح القاف قال معناه قدروها فی أنفسهم، فجاءت کما قدروا، و
من ضم أراد أن
__________________________________________________
[.....] 133 / 338 و القرطبی 19 / 1) الشوکانی 5 )
ص: 212
ذلک قدر لهم أي قدره اللَّه لهم کذلک. و قرأ نافع و الکسائی و ابو بکر عن عاصم (قواریراً قواریراً) بالتنوین فیهما. و قرأ بغیر تنوین
و لا الف فی الوقف حمزة و ابن عامر، و قرأ الاولی بالتنوین و الثانیۀ بغیر تنوین ابن کثیر. و قرأ ابو عمرو فیهما بغیر تنوین إلا انه یقف
علیه بالألف. من نون الأولی اتبع المصحف، و لأنه رأس آیۀ، ثم کرهوا أن یخالفوا بینهما فنونوا الثانیۀ، و کذلک قرأ الکسائی (ألا ان
صرفهما لئلا یخالف بینهما مع قربهما، و من لم یصرفهما فعلی موجب العربیۀ، لأنه جمع علی «1» ( ثمودا کفروا ربهم ألا بعدا لثمود
(فواعیل) بعد ألفه حرفان. و من صرف الاولی فلأنها رأس آیۀ و لم یصرف الثانیۀ علی أصل العربیۀ.
لما اخبر اللَّه تعالی عن المؤمنین الذین وصفهم فی الآیات الأولی و ما أوفوا به من النذر فی إطعامهم لوجه اللَّه ما أطعموه و إیثارهم
علی نفوسهم المسکین و الیتیم و الأسیر و إنهم فعلوا ذلک لوجه اللَّه خالصاً، و مخافۀ من عذاب یوم القیامۀ، اخبر بما أعد لهم من
الجزاء علی ذلک، فقال (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِکَ الْیَوْمِ) أي کفاهم اللَّه و منع عنهم أهوال یوم القیامۀ و شدائده، فالوقاء المنع من الأذي
یقال: وقاه یقیه وقاء، فهو واق، و وقّاه توقیۀ قال رؤبۀ:
«2» إن الموّقی مثل ما وقیت
و منه اتقاه اتقاء و توقاه توقیاً، و الشر ظهور الضرّ، و أصله الظهور من قولهم:
«3» و حتی أشرت بالأکف المصاحف
أي أظهرت، و منه شررت الثوب إذا أظهرته للشمس او الریح، و منه شرار
__________________________________________________
1) سورة 11 هود آیۀ 68 )
2) اللسان (وقی) )
181 و صدره: / 3) قائله کعب بن جعیل، مقاییس اللغۀ 3 )
صفحۀ 117 من 233
فما برحوا حتی رأي الله صبرهم
ص: 213
النار لظهوره بتطایره و انتشاره، و قیل: الشر الضر و القبیح، و یستعار فی غیره، و لیس ما یوجب هذا. و المراد- هاهنا- أهوال یوم
القیامۀ و شدائده فالوقاء المنع من الأذي یقال: وقاه یقیه وقاء فهو واق و وقاه توقیۀ و قوله (وَ لَقَّاهُمْ نَضْ رَةً وَ سُرُوراً) معنی لقاهم
استقبلهم به، و النضرة حسن الألوان، و منه نبت نضر و ناضر و نضر و النضار الذهب. و قیل: ناضرة ناعمۀ. و قیل: حسنۀ الصورة. و
السرور اعتقاد وصول المنافع الیه فی المستقبل. و قال قوم: هو لذة فی القلب بحسب متعلقه بما فیه النفع، سره یسره سروراً و کل سرور
فلا بدله من متعلق، کالسرور بالمال و الولد و السرور بالإکرام و الإجلال، و السرور بالشکر و الحمد، و السرور بالثواب.
و قوله (وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي کافاهم و أثابهم علی صبرهم علی محن الدنیا و شدائدها و تحمل مشاق التکلیف (جَنَّۀً) أي بستاناً
أجنه الشجر (وَ حَرِیراً) یلبسونه. و قوله (مُتَّکِئِینَ) نصب علی الحال (فِیها) یعنی فی الجنۀ (عَلَی الْأَرائِکِ) و هی الحجال فیها الاسرة- فی
قول ابن عباس و مجاهد و قتادة- واحدها اریکۀ و هی الحجلۀ سریر علیه شبه القبۀ. و قال الزجاج: الاریکۀ کل ما یتکأ علیه من مسورة
أو غیرها، و قد شوق اللَّه تعالی إلی تلک الحال و هی غایۀ الرفاهیۀ و الامتاع (لا یَرَوْنَ فِیها) یعنی فی الجنۀ (شَمْساً) یتأذون بحرّها (وَ لا
زَمْهَرِیراً) یتأذون ببرده، فالزمهریر أشد ما یکون من البرد، و قال مجاهد: الزمهریر البرد الشدید و قوله (وَ دانِیَۀً عَلَیْهِمْ ظِلالُها) یعنی أفیاء
أشجار تلک الجنۀ قریبۀ منهم، و نصب (دانِیَۀً) بالعطف علی (مُتَّکِئِینَ) و یجوز ان یکون عطفاً علی موضع (لا یَرَوْنَ فِیها شَمْساً) فان
موضعها النصب علی الحال، و یجوز علی المدح کقولهم عند فلان جاریۀ جمیلۀ و شابۀ طریۀ. و قوله (وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِیلًا) معناه إن
قام ارتفعت بقدرة اللَّه و إن قعد نزلت حتی ینالها و إن اضطجع نزلت حتی ینالها- ذکره مجاهد- و قیل: معناه لا یرد التبیان فی تفسیر
القرآن، ج 10 ، ص: 214
أیدیهم عنها بعد و لا شوك.
و قوله (وَ یُطافُ عَلَیْهِمْ) یعنی علی هؤلاء المؤمنین الذین وصفهم اللَّه (بِآنِیَۀٍ مِنْ فِضَّۀٍ وَ أَکْوابٍ) و هو جمع کوب و هو إناء الشراب من
غیر عروة. و قال مجاهد: الأکواب الأقداح. و قال ابن عباس و مجاهد: هی صغار القواریر و هی فضۀ، فلذلک قال (کانَتْ قَوارِیرَا) و
قیل: الأکواب الأباریق التی لیس لها خراطیم. و قیل: الأکواب من فضۀ فی صفاء القواریر لا تمنع الرؤیۀ. و قوله (قَوارِیرَا مِنْ فِضَّۀٍ) أي
هی من فضۀ. و قوله (قَدَّرُوها تَقْدِیراً) معناه إنها علی قدر ما یشتهون من غیر زیادة و لا نقصان حتی تستوفی الکمال، و یجوز ان
یکونوا قدّروها قبل مجیئها علی صفۀ فجاءت علی ما قدروا جنسه لشبه التمنی، و قال الحسن: علی قدرهم، و التقدیر وضع المعنی علی
المقدار الذي یتخیل فیه المساواة للاعتبار بالمعانی العقلیۀ بقدر عرف التقدیر علی طریقۀ لو کان کذا لکان کذا، و إذا کان کذا کان
کذا، و بهذا یظهر القیاس یمیز به ما یلزم علی الأصل مما لا یلزم، و الطوف الدور بالنقل من واحد إلی واحد. و قد یکون الدور بالطبع
من غیر تنقل من واحد إلی آخر، فلا یکون طوافاً، طاف یطوف طوفاً، و أطاف بها إطافۀ و تطوف تطوفاً و اطوف اطوافاً و قوله (وَ
یُسْقَوْنَ فِیها) یعنی فی الجنۀ (کَأْساً) و هی الآنیۀ إذا کان فیها شراب (کانَ مِزاجُها زَنْجَبِیلًا) فالزنجبیل ضرب من القرفۀ طیب الطعام
یلذع اللسان یربی بالعسل یستدفع به المضار إذا مزج به الشراب فاق فی الالذاذ. و العرب تستطیب الزنجبیل جداً قال الشاعر:
«1» کأن القرنفل و الزنجبیل باتا بفیها و اریا مشورا
و قیل: إن هذا الشراب فی برد الکافور و ذکاء المسک و لذع الزنجبیل، کما
__________________________________________________
1) قائله الأعشی دیوانه 85 و اللسان (شور) و فیه اختلاف فی الروایۀ )
ص: 215
قال فی صفۀ القواریر إنها فی صفاء الفضۀ و جوهرها یري ما وراءها کالقواریر.
صفحۀ 118 من 233
« فِیها تُسَ مَّی سَلْسَبِیلًا » نصب علی انه بدل من الزنجبیل « عیناً » و قیل: الکافور و الزنجبیل من اسماء العین التی یسقون منها و قوله
فالسلسبیل الشراب السهل اللذیذ، و قیل: سلسبیل معناه منقاد ماؤها حیث شاءوا- عن قتادة- و قیل شدید الحربۀ.
و قیل: یتسلسله. و قیل: سمی سلسبیلا من لزوم الطیب و الالذاذ بها، و انشد یونس:
«1» صفراء من نبع یسمی سهمها من طول ما صرع الصیود الصیب
قال قتادة: لا « وَ یَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ » فرفع الصیب علی صفۀ السهم. و قیل: اسم العین معرفۀ إلا أنه نون لأنه رأس آیۀ. ثم قال
یموتون. و قال الحسن: خلدوا علی هیئۀ الوصفاء، فلا یشبون أبداً. و قیل: مخلدون مستورون بلغۀ حمیر قال بعض شعرائهم:
«2» و مخلدات باللجین کأنما أعجازهن اقاوز الکثبان
أي من کثرتهم و حسنهم، فکأنهم « حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً » یعنی إذا رأیت هؤلاء الولدان « إِذا رَأَیْتَهُمْ » و کأنه یرجع الی بقاء الحسن
تقدیره و إذا رأیت الأشیاء ثم رأیت نعیماً لأهل الجنۀ « وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ رَأَیْتَ نَعِیماً وَ مُلْکاً کَبِیراً » اللؤلؤ المنثور- ذکره قتادة- و قوله
« ثم » ف « وَ إِذا رَأَیْتَ ثَمَّ » عظیماً و ملکاً کبیراً. قال سفیان: من الملک الکبیر استئذان الملائکۀ علیهم و استقبالهم لهم بالتحیۀ. و قوله
و تقدیره و إذا رأیت ببصرك ثم رأیت نعیماً و ملکاً کبیراً. و قال الفراء: و إذا رأیت ما ثم « رَأَیْتَ » یرید به الجنۀ. و العامل فیه معنی
رأیت نعیماً. و أنکره الزجاج و قال (ما) موصولۀ یتم علی تفسیره، و لا یجوز إسقاط الموصول مع بقاء الصلۀ، و لکن (رأیت) متعد فی
المعنی إلی (ثم).
__________________________________________________
118 / 1) تفسیر الطبري 29 )
208 و اللسان (خلد، قوز) / 2) مقاییس اللغۀ 2 )
ص: 216
قوله تعالی:[سورة الإنسان ( 76 ): الآیات 21 الی 31 ] ..... ص: 216
عالِیَهُمْ ثِیابُ سُندُسٍ خُضْ رٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّۀٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ( 21 ) إِنَّ هذا کانَ لَکُمْ جَزاءً وَ کانَ سَ عْیُکُمْ
مَشْکُوراً ( 22 ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَیْکَ الْقُرْآنَ تَنْزِیلًا ( 23 ) فَاصْبِرْ لِحُکْمِ رَبِّکَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ کَفُوراً ( 24 ) وَ اذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ بُکْرَةً
( وَ أَصِیلًا ( 25
وَ مِنَ اللَّیْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَیْلًا طَوِیلًا ( 26 ) إِنَّ هؤُلاءِ یُحِبُّونَ الْعاجِلَۀَ وَ یَذَرُونَ وَراءَهُمْ یَوْماً ثَقِیلًا ( 27 ) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَ دَدْنا
أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِیلًا ( 28 ) إِنَّ هذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلًا ( 29 ) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ یَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ کانَ
( عَلِیماً حَکِیماً ( 30
( یُدْخِلُ مَنْ یَشاءُ فِی رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِینَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِیماً ( 31
احدي عشرة آیۀ.
قرأ (عالیهم) بإسکان الیاء أهل المدینۀ و حمزة و عاصم- فی روایۀ حفص و أبان و المفضل- جعلوه اسماً لا ظرفاً کما تقول: فوقک
واسع و منزلک باب البرد، بأن یجعل الباب هو المنزل، و کذلک یجعل الثیاب هی العالی. الباقون بالنصب علی الظرف، لأنه ظرف
مکان. و هو الأحسن، لان الثانی غیر الأول. و إنما یجوز فی مثل ما کان آخر الکلام هو الأول کقولهم: أمامک صدرك، و فوقک
رأسک، ص: 217
فان قلت فوقک السقف و أمامک الأسد بالنصب لا غیر. و قرأ نافع و حفص عن عاصم (خضر و إستبرق) بالرفع فیهما. و قرأ حمزة و
رفعاً « خضر » رفعاً. و قرأ ابن عامر و ابو عمرو « و إستبرق » جراً « خضر » الکسائی بالجر فیهما. و قرأ ابن کثیر و عاصم- فی روایۀ أبی بکر
صفحۀ 119 من 233
و عطف « سندس » من نعت « خضر » و من جرهما جعل « و إستبرق » نعتاً للثیاب، و عطف علیه « خضر » جراً. من رفعهما جعل « إستبرق » و
کأن « سندس » و تقدیره عالیهم ثیاب إستبرق. و من رفع الأول جعله من نعت الثیاب و جر الثانی علی انه عطف علی « إستبرق » علیه
و من جعله نعتاً للثیاب « خضر » فلانه اسم جنس یقع علی الجمیع، فلذلک قال ،« سندس » نعتاً ل « خضر » علیهم ثیاب سندس. و من جعل
بالیاء علی الخبر عن الغائب. الباقون بالتاء علی الخطاب. « و ما یشاؤن » فعلی اللفظ. و قرأ ابن کثیر و ابو عمرو
لما قال اللَّه تعالی علی وجه التعظیم لشأن المؤمنین الذین وصفهم و عظم ما اعطوا من أنواع النعیم و الولدان و أنواع الشراب و غیر
قولان: قال « عالیهم » و قیل معناه عالی حجالهم السندس. و فی نصب « عالِیَهُمْ » ذلک مما وصف، و وصف ذلک بأنه ملک کبیر قال
الفراء: هو نصب علی الظرف کقولک: فوقهم، و حکی إن العرب تقول: قومک داخل الدار. و أنکر الزجاج ذلک، و قال نصبه لا
و إنما أنکر ذلک لأنه لیس باسم مکان کقولک هو « رأیتهم » أو من ضمیر الولدان فی « عالیهم » یجوز إلا علی الحال من الضمیر فی
خارج الدار و داخل الدار، و هذا لا یجوز علی الظرف عند سیبویه، و ما حکاه الفراء شاذ لا یعول علیه. و من أسکن الیاء أراد رفعه
و السندس الدیباج الرقیق الفاخر الحسن ص: 218 « ثِیابُ سُندُسٍ » علی الابتداء و خبره
فمن جر جعله صفۀ ل (سندس) خضر و وصف (سندس) بخضر و هو لفظ جمع، لان سندساً « خُضْ رٌ » و هو (فعلل) مثل برثن. و قوله
اسم جنس یقع علی الکثیر و القلیل. و من رفعه جعله نعتاً ل (ثیاب) کأنه قال: ثیاب خضر من سندس.
فکأنه قال عالیهم ثیاب سندس، و عالیهم إستبرق. و من جره عطفه علی « ثیاب سندس » من رفعه عطفه علی « و إستبرق » و قوله
(سندس) فکأنه قال: عالیهم ثیاب سندس و ثیاب إستبرق.
و الإستبرق الدیباج الغلیظ الذي له بریق، فهم یتصرفون فی فاخر اللباس کما یتصرفون فی لذیذ الطعام و الشراب. و قیل الإستبرق له
غلظ الصفاقۀ لا غلظ السلک کغلظ الدیبقی، و إن کان رقیق السلک.
فالتحلیۀ الزینۀ بما کان من الذهب و الفضۀ و التحلیۀ تکون للإنسان و غیر الإنسان کحلیۀ السیف و « وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّۀٍ » و قوله
حلیۀ المرکب و الفضاضۀ الشفافۀ هی التی یري ما وراءها کما یري البلورة، و هی أفضل من الدرّ و الیاقوت، و هما أفضل من الذهب
فتلک الفضۀ أفضل من الذهب، و الفضۀ و الذهب فی الدنیا هما أثمان الأشیاء، و إن کان قد ثمن بغیرهما شاذاً. و قیل: یحلون الذهب
و الفضۀ و إن کانت دنیۀ فی الدنیا، «1» « یُحَلَّوْنَ فِیها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ » تارة و تارة الفضۀ لیجمعوا محاسن الحلیۀ، کما قال تعالی
فهی فی غایۀ الحسن خاصۀ إذا کانت بالصفۀ التی ذکرها و الغرض فی الآخرة ما یکثر الالتذاذ و السرور به لا بأکثر الثمن، لأنه لیست
هناك أثمان. و فی الناس من ترك صرف (إستبرق) و هو غلط، لأن الاعجمی إذا عرب فی حال تنکیره انصرف، و دلیله الإستبرق و
هما مما یحکی عن ابن محیص.
قیل معناه یسقون شراباً طهوراً لیس « وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً » و قوله
__________________________________________________
1) سورة 18 الکهف آیۀ 31 و سورة 22 الحج آیۀ 23 و سورة 35 فاطر آیۀ 33 )
ص: 219
کالذي یخالطه الانجاس من أنهار الدنیا. و إن قل ذلک و کان مغموراً. و قیل انه لیس کشراب الدنیا الذي قد نجسه الفساد الذي فیه،
و قیل: شراباً «1» « مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِینَ » و هو السکر الداعی إلی القبائح، فقد طهره اللَّه فی الجنۀ من ذلک لتخلص به اللذة، کما قال
طهوراً لا ینقلب إلی البول بل یفیض من أعراضهم کرشح المسک ذکره ابراهیم التیمی.
اخبار من اللَّه تعالی انه یقال للمؤمنین إذا فعل بهم ما تقدم من انواع اللذات و « إِنَّ هذا کانَ لَکُمْ جَزاءً وَ کانَ سَ عْیُکُمْ مَشْکُوراً » و قوله
فنون الثواب: إن هذا کان لکم جزاء علی طاعاتکم و اجتناب معاصیکم فی دار التکلیف، و إن سعیکم فی مرضات اللَّه و قیامکم بما
أمرکم اللَّه به کان مشکوراً أي جوزیتم علیه، فکأنه شکر لکم فعلکم.
صفحۀ 120 من 233
فیه شرف و تعظیم لک. ثم أمره بالصبر علی ما أمره من « الْقُرْآنَ تَنْزِیلًا » یا محمد « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَیْکَ » ثم اخبر تعالی عن نفسه فقال
و هو نهی « آثِماً أَوْ کَفُوراً » یعنی من قومه الذین بعث الیهم « لِحُکْمِ رَبِّکَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ » یا محمد « فَاصْبِرْ » تحمل أعباء الرسالۀ فقال
عن الجمع و التفریق أي لا تطع آثماً و لا کفوراً، کما یقول القائل: لا تفعل معصیۀ صغیرة او کبیرة أي لا تفعلهما و لا واحدة منهما.
و البکرة الغداة و الأصیل « وَ اذْکُرِ اسْمَ رَبِّکَ بُکْرَةً وَ أَصِ یلًا » ثم أمره بان یذکر اللَّه بما یستحقه من الصفات و الأسماء الحسنی، فقال
العشی، و هو اصل اللیل و جمعه آصال.
دخلت (من) للتبعیض بمعنی فاسجد له فی بعض اللیل، لأنه لم یأمره بقیام جمیع اللیل، کما قال « وَ مِنَ اللَّیْلِ فَاسْجُدْ » و قوله
__________________________________________________
1) سورة 47 محمد آیۀ 15 )
ص: 220
و السجود وضع الجبهۀ علی الأرض علی وجه الخضوع و أصله «1» « إِنَّ رَبَّکَ یَعْلَمُ أَنَّکَ تَقُومُ أَدْنی مِنْ ثُلُثَیِ اللَّیْلِ وَ نِصْ فَهُ وَ ثُلُثَهُ »
الانخفاض کما قال الشاعر:
«2» تري الاکم فیها سجداً للحوافر
أي نزهه عما لا یلیق به فی اللیل « وَ سَبِّحْهُ لَیْلًا طَوِیلًا » و السجود من العبادة التی أکد اللَّه الأمر بها لما فیها من صلاح العباد. ثم قال
أي یؤثرون اللذات و المنافع العاجلۀ فی دار الدنیا « یُحِبُّونَ الْعاجِلَۀَ » یعنی الکفار و الذین یجحدون نبوتک « إِنَّ هؤُلاءِ » الطویل. ثم قال
أي هو ثقیل علی « یَوْماً ثَقِیلًا » أي و یترکون (وَراءَهُمْ) أي خلفهم « وَ یَذَرُونَ » من ارتکاب شهواتهم. و العاجلۀ المقدمۀ قبل الکرة الثانیۀ
اهل النار أمره، و إن خف علی اهل الجنۀ للبشارة التی لهم فیه. و الثقیل ما فیه اعتمادات لازمۀ إلی جهۀ السفل علی جهۀ یشق حمله. و
قد یکون ثقیلا علی انسان خفیفاً علی غیره بحسب قدرته، فیوم القیامۀ مشبه بهذا. و قیل: معنی (وراءهم) أي خلف ظهورهم العمل
للاخرة. و قیل (وراءهم) أمامهم الآخرة، و کلاهما محتمل، و الاول أظهر.
ثم قال تعالی (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) أي نحن الذین اخترعنا هؤلاء الخلائق (وَ شَ دَدْنا أَسْرَهُمْ) قال ابن عباس الأسر الخلق، و هو من قولهم:
أسر هذا الرجل فأحسن اسره أي خلق فأحسن خلقه أي شد بعضه إلی بعض أحسن الشد، و قال ابو هریرة:
الأسر المفاصل. و قال ابن زید: الأسر القوة. و قولهم: خذ بأسره أي بشده قبل ان یحل، ثم کثر حتی جاء بمعنی خذ جمیعه قال
الأخطل:
__________________________________________________
1) سورة 73 المزمل آیۀ 20 )
95 و غیرها / 383 و 6 ،233 / 311 و 4 ،263 ،148 / 2) مر فی 1 )
ص: 221
«1» من کل مجتلب شدید أسره سلس القیاد تخاله مختالا
و اصل الأسر الشد، و منه قتب مأسور أي مشدود، و منه الأسیر، لأنهم کانوا یشدونه بالقید، و جاء فی التفسیر و شددنا مفاصلهم. ثم
قال (وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِیلًا) معناه إذا شئنا أهلکنا هؤلاء و أمثالهم و جئنا بقوم آخرین بدلهم نخلفهم و نوجدهم.
و قوله (إِنَّ هذِهِ تَذْکِرَةٌ) قال قتادة: معناه إن هذه السورة تذکرة، و التذکرة دلالۀ تخص بها المعانی الحکمیۀ، و کل موعظۀ تدعو إلی
مکارم الأخلاق و محاسن الافعال تذکرة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَ ذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلًا) أي اتخذ إلی رضا ربه طریقاً بأن یعمل بطاعته و ینتهی عن
معصیته، و ذلک یدل علی انه قادر علی ذلک قبل ان یفعله بخلاف ما یقوله المجبرة.
و قوله (وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ یَشاءَ اللَّهُ) أي و لیس تشاؤن شیئاً من العمل بطاعته و بما یرضاه و یوصلکم الی ثوابه إلا و اللَّه یشاؤه و یریده
صفحۀ 121 من 233
لأنه یرید من عباده أن یطیعوه، و لیس المراد أن یشاء کل ما یشاؤه العبد من المعاصی و المباحات، لان الحکیم لا یجوز أن یرید
و «2» ( القبائح و لا المباح، لان ذلک صفۀ نقص و یتعالی اللَّه عن ذلک. و قد قال اللَّه تعالی (یُرِیدُ اللَّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ
المعصیۀ و الکفر من أعظم العسر فکیف یکون اللَّه تعالی مشیئاً له و هل ذلک إلا تناقض ظاهر؟! و قوله (إِنَّ اللَّهَ کانَ عَلِیماً حَکِیماً)
اخبار بأنه- عز و جل- کان عالماً بجمیع المعلومات و بما یفعله عباده من الطاعۀ و المعصیۀ (حکیماً) فی جمیع ما یفعله و یأمر به.
ثم قال (یُدْخِلُ مَنْ یَشاءُ فِی رَحْمَتِهِ) من الجنۀ و ثوابها إذا أطاعوه فی عمل ما رغبهم
__________________________________________________
122 / 149 و الطبري 29 / 1) القرطبی 19 )
2) سورة 2 البقرة آیۀ 185 )
ص: 222
نصب (الظالمین) علی تقدیر و عاقب الظالمین باعداد العذاب الألیم أي أعد للظالمین أعد لهم، و « وَ الظَّالِمِینَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِیماً » فیه
حذف لدلالۀ الثانی علیه و لا یظهر ذلک، لان تفسیره یغنی عن إظهاره.
-77 سورة المرسلات: ..... ص: 222
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و هی خمسون آیۀ بلا خلاف
[سورة المرسلات ( 77 ): الآیات 1 الی 15 ] ..... ص: 222
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ( 1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ( 2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ( 3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ( 4
( فَالْمُلْقِیاتِ ذِکْراً ( 5) عُذْراً أَوْ نُذْراً ( 6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ( 7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ( 9
( وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ( 10 ) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( 11 ) لِأَيِّ یَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 ) لِیَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَ ما أَدْراكَ ما یَوْمُ الْفَصْلِ ( 14
( وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 15
خمس عشرة آیۀ.
خفیف أهل الکوفۀ غیر أبی بکر و ابو عمرو. من ثقل الأول فلأن الثانی مثقل، و « او نذراً » مثقل ابو جعفر و البرجمی و قرأ « عذراً » قرأ
من خفف الثانی فلأن ص: 223
أراد جمع نذیر. و العذر و المعذرة و التعذیر « نذراً » الأول مخفف. و العذر بالتخفیف و النذر بمعنی الاعذار و الانذار. و من ثقل
بمعنی. قال ابو علی النحوي: النذر بالتثقیل و النذیر مثل النکر و النکیر جمیعاً مصدران، و یجوز فی النذر أمران: أحدهما- ان یکون
بالواو علی الأصل، وافقه ابو جعفر فی ذلک إلا انه خفف « وقتت » معناه المنذر. و الثانی- أن یکون مصدراً. و قرأ ابو عمرو وحده
بالهمزة أبدلوها من الواو کراهۀ الضمۀ علی الواو، کما قالوا فی (وحد) و قال الشاعر: « أقتت » الواو. الباقون
«1» یحل أخیذه و یقال ثعل بمثل تمول منه افتقار
هذا قسم من اللَّه تعالی بالمرسلات، کما اقسم بصاد و قاف و یس و غیر ذلک و قال قوم: تقدیره و رب المرسلات، لأنه لا یجوز
القسم إلا باللَّه. و قال ابن مسعود و ابن عباس و مجاهد و قتادة و ابو صالح: الْمُرْسَلاتِ- هاهنا- الریاح، و فی روایۀ اخري عن ابن
صفحۀ 122 من 233
الأنبیاء جاءت بالمعروف. و الإرسال نقیض الإمساك و مثله الإطلاق و « الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً » مسعود و أبی صالح إنها الملائکۀ. و قال قوم
أي متتابعۀ کعرف الفرس. و قیل: « عرفاً » نقیضه التقیید و الإرسال ایضاً إنفاد الرسول. و قوله
یعنی الریاح الهابۀ بشدة. و العصوف مرور الریح بشدة، « فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً » معروفا إرسالها. و إرسال الریاح اجراء بعضها فی أثر بعض
قال ابن مسعود و « وَ النَّاشِراتِ نَشْراً » عصفت الریح تعصف عصفاً و عصوفاً إذا اشتدت هبوبها، فعصوف الریح شدة هبوبها. و قوله
مجاهد و قتادة و ابو صالح: هی الریاح، لأنها تنشر السحاب للغیث، کما تلحقه للمطر. و قال ابو صالح- فی روایۀ- هی الملائکۀ تنشر
الکتب عن اللَّه. و فی روایۀ اخري عن أبی صالح إنها الأمطار لأنها تنشر النبات. و قیل الریاح تنشر السحاب فی الهواء.
__________________________________________________
126 / 1) الطبري 29 )
ص: 224
و قوله (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) قال ابن عباس و ابو صالح: هی التی تفرق بین الحق و الباطل، و هی الملائکۀ و قال قتادة: هی آیات القرآن. و
قال الحسن: هی آي القرآن تفرق بین الهدي و الضلال (فَالْمُلْقِیاتِ ذِکْراً) قال ابن عباس و قتادة هم الملائکۀ. و الإلقاء طرح الشیء
علی غیره، و الإلقاء إیقاع الشیء علی غیره، فالذکر یلقی بالبیان و الافهام و هو من صفۀ الملائکۀ فیما تلقیه إلی الأنبیاء، و من صفۀ
الأنبیاء فیما تلقیه إلی الأمم، و من صفۀ العلماء فیما تلقیه الی المتعلمین و قیل لما جمعت الأوصاف للریاح لاختلاف فوائدها. و قال
فَالْفارِقاتِ » الأمطار نشرت النبات « وَ النَّاشِراتِ نَشْراً » بعضهم (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) الأنبیاء جاءت بالمعروف (فَالْعاصِ فاتِ عَصْ فاً) الریاح
الملائکۀ تلقی کتاب اللَّه تعالی إلی الأنبیاء. « فَالْمُلْقِیاتِ ذِکْراً » آي القرآن « فَرْقاً
یحتمل نصبه وجهین: « عُذْراً أَوْ نُذْراً » و قوله
أحدهما- علی انه مفعول له أي للاعذار و الانذار.
و قیل معناه اعذاراً من اللَّه و إنذاراً الی « ذکراً » و الثانی- مفعول به أي ذکرت العذر و النذر. و اختار ابو علی أن یکون بدلا من قوله
خلقه ما ألقته الملائکۀ من الذکر إلی أنبیائه و العذر أمر فی امر ظهوره دفع اللوم بأنه لم یکن یستحق لأجل تلک الحال مع وقوع
« عذراً » خلاف المراد. فالعقاب علی القبیح بعد الانذار یوجب العذر فی وقوعه. و إن کان بخلاف مراد العبد الذي استحقه. قال الحسن
معناه یعتذر به الی عباده فی العقاب أنه لم یکن الا علی وجه الحکمۀ. و النذر و الانذار و هو الاعلام بموضع المخافۀ لیتقی. و من
کره توالی الضمتین. « عذراً » خفف
جواب القسم و معناه إن الذي وعدکم اللَّه به من البعث و النشور و الثواب و العقاب: کائن لا محالۀ. و « إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ » و قوله
قیل: الفرق بین الواقع ص: 225
و الکائن أن الواقع لا یکون إلا حادثاً تشبیهاً بالحائط الواقع، لأنه من أبین الأشیاء فی الحدوث، و الکائن أعم منه لأنه بمنزلۀ الموجود
الثابت یکون حادثاً و غیر حادث.
معناه محیت آثارها و ذهب نورها. و الطمس محو الأثر الدال علی الشیء فالطمس علی النجوم کالطمس « فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ » و قوله
علی الکتاب، لأنه یذهب نورها و العلامات التی کانت تعرف بها (وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي شققت و صدعت (وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ)
نسف الجبال إذهابها حتی لا یبقی لها فی الأرض أثر، و النسف تحریک الشیء بما یخرج ترابه و ما اختلط به مما لیس منه، و منه
من قولهم: أنسفت الشیء إذا أخذته بسرعۀ. « نُسِفَتْ » سمی المنسف و نسف الحبوب کلها تجري علی هذا الوجه، و قوله
و قوله (وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي أعلمت وقت الثواب و وقت العقاب، فالتوقیت تقدیر الوقت لوقوع الفعل، و لما کانت الرسل علیهم
السلام قد قدر إرسالها لاوقات معلومۀ بحسب صلاح العباد فیها کانت قد وقتت لتلک الأوقات بمعنی أعلمت وقت الثواب و وقت
و المواقیت الآجال «1» ( العقاب. و قال مجاهد و ابراهیم و ابن زید: أقتت بالاجتماع لوقتها یوم القیامۀ قال تعالی (یَوْمَ یَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ
صفحۀ 123 من 233
و قیل: معنی اقتت أجلت لوقت ثوابها، و هو یوم الفصل. و قیل: معناه «2» ( و مثله (یَسْئَلُونَکَ عَنِ الْأَهِلَّۀِ قُلْ هِیَ مَواقِیتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ
أجلت فیما بینها و بین أمتها (لِیَوْمِ الْفَصْلِ) ثم بین تعالی فقال (لِأَيِّ یَوْمٍ أُجِّلَتْ) أي أخرت إلی اجل فالتأجیل التأخیر الی أجل، فالرسل
قد أجلت بموعودها الی یوم الفصل، و هو یوم القیامۀ و سمی یوم الفصل، لأنه یفصل فیه بین حال المهتدي و الضال بما یعلم اللَّه
لأحدهما من
__________________________________________________
[.....] 1) سورة 5 المائدة آیۀ 112 )
2) سورة 2 البقرة آیۀ 189 )
ص: 226
حال الثواب بالإجلال و الإکرام، و للاخر من حال العقاب بالاستخفاف و الهوان بما لا یخفی علی انسان. و قیل: الوجه فی تأجیل
الموعود إلی یوم الفصل تحدید الامر للجزاء علی جمیع العباد فیه بوقوع الیأس من الرد إلی دار التکلیف، لان فی تصور هذا ما یتأکد
به الدعاء الی الطاعۀ و الانزجار عن المعصیۀ.
و قوله (وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَ ذِّبِینَ) تهدید و وعید لمن جحد یوم القیامۀ و کذب بالثواب و العقاب، و إنما خص الوعید فی الذکر
بالمکذبین لأن التکذیب بالحق یتبعه کل شیء، فخصال المعاصی تابعۀ له و إن لم یذکر معه، مع أن التکذیب قد یکون فی القول و
الفعل المخالف للحق، و منه قولهم: حمل فما کذب حتی لقی العدو فهزمه.
قوله تعالی:[سورة المرسلات ( 77 ): الآیات 16 الی 28 ] ..... ص: 226
أَ لَمْ نُهْلِکِ الْأَوَّلِینَ ( 16 ) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِینَ ( 17 ) کَ ذلِکَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِینَ ( 18 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 19 ) أَ لَمْ نَخْلُقْکُمْ مِنْ ماءٍ
( مَهِینٍ ( 20
( فَجَعَلْناهُ فِی قَرارٍ مَکِینٍ ( 21 ) إِلی قَدَرٍ مَعْلُومٍ ( 22 ) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ( 23 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 24 ) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ کِفاتاً ( 25
( أَحْیاءً وَ أَمْواتاً ( 26 ) وَ جَعَلْنا فِیها رَواسِیَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَیْناکُمْ ماءً فُراتاً ( 27 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 28
ثلاث عشرة آیۀ.
.« فَنِعْمَ الْقادِرُونَ » مشددة. الباقون بالتخفیف و هما لغتان. و من اختار التخفیف فلقوله « فقدرنا » قرأ أهل المدینۀ و الکسائی
یعنی قوم نوح ص: 227 « أَ لَمْ نُهْلِکِ الْأَوَّلِینَ » یقول اللَّه تعالی علی وجه التهدید للکفار
و عاد و ثمود، و الآخرون قوم لوط و ابراهیم إلی فرعون و من معه من الجنود أهلکهم اللَّه تعالی بأنواع الهلاك جزاء علی کفرهم
کأنه قال: « أ لم » إنما رفعه عطفاً علی موضع « ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِینَ » لنعم اللَّه و جحدهم لتوحیده و اخلاص عبادته و قوله
لکنا نهلک الأولین ثم نتبعهم الآخرین. و قال المبرد تقدیره ثم نحن نتبعهم لا یجوز غیره. لان قوله (أَ لَمْ نُهْلِکِ) ماض، و قوله (ثُمَّ
نُتْبِعُهُمُ) مستقبل فلا یکون عطفاً علی الاول و لا علی موضعه. و الإهلاك إبطال الشیء بتصییره الی حیث لا یدري این هو إما باعدامه
او بإخفاء مکانه، و قد یکون الإهلاك بالاماتۀ، و قد یکون بالنقل إلی حال الجمادیۀ. و الاول هو الکائن قبل غیره. و الثانی هو الکائن
بعد غیره.
و الاول قبل کل شیء هو اللَّه تعالی الذي لم یزل. (وَ الْأَوَّلِینَ) فی الآیۀ هم الذین تقدموا علی أهل العصر الثانی، و الاخر الکائن بعد
الاول من غیر بقیۀ منه، و بهذا ینفصل عن الثانی، لأن الثانی قد یکون بعد بقیۀ من الشیء ثالثاً و رابعاً و خامساً إلی حیث انتهی، فإذا
صار الی الآخر فلیس بعده شیء کالکتاب الذي هو أجزاء کثیرة و قوله (کَذلِکَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِینَ) أي مثل ما فعلنا بأولئک نفعل مثله
بالعصاة ثم قال (وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ) یعنی یوم الجزاء و الثواب و العقاب (لِلْمُکَذِّبِینَ) فإنهم یجازون بألیم العقاب. و الاتباع الحاق الثانی بالأول
صفحۀ 124 من 233
بدعائه الیه، و التبع الحاق الثانی بالأول باقتضائه له، تبع تبعاً فهو تابع و أتبع اتباعاً.
و قوله (أَ لَمْ نَخْلُقْکُمْ مِنْ ماءٍ مَهِینٍ) و المهین القلیل الغناء، و مثله الحقیر الذلیل و فی خلق الإنسان علی هذا الکمال من الحواس
الصحیحۀ و العقل و التمیز من ماء مهین أعظم الاعتبار و أبین الحجۀ علی ان له مدبراً و صانعاً و خالقاً خلقه و صنعه فمن جحده کان
کالمکابر لما هو من دلائل العقول.
ثم قال اللَّه تعالی مبیناً انه جعل ذلک الماء المهین الحقیر (فِی قَرارٍ مَکِینٍ) ص: 228
فالقرار المکان الذي یمکن أن یطول فیه مکث الشیء، و منه قولهم: قر فی المکان إذا ثبت علی طول المکث فیه یقر قراراً، و لا قرار
لفلان فی هذا المکان أي لاثبات له.
و قوله (إِلی قَدَرٍ مَعْلُومٍ) فالقدر المقدار المعلوم الذي لا زیادة فیه و لا نقصان و کأنه قال إلی مقدار من الوقت المعلوم، و القدر مصدر
من قولهم: قدر یقدر قدراً و قدر یقدّر- بالتخفیف، و التشدید- إلا أن التشدید للتکثیر. و قوله (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) معناه فی قول
من خفف فقدرنا من القدرة، فنعم القادرون علی تدبیره. و من شدد أراد فقدرنا، فنعم المقدرون لاحوال النطفۀ و نقلها من حال الی
حال حتی صارت إلی حال الإنسان. و العرب تقول: قدر علیه الموت و قدر: بالتخفیف و التشدید. و من شدد و قرأ القادرون جمع بین
اللغتین کما قال الأعشی:
«1» و انکرتنی و ما کان الذي نکرت من الحوادث إلا الشیب و الصلعا
و قوله (أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ کِفاتاً) نصب (کفاتاً) علی الحال، و تقدیره أ لم نجعل الأرض لکم و لهم کفاتاً، و الکفات الضمام فقد
جعل اللَّه الأرض للعباد تکفتهم (أَحْیاءً وَ أَمْواتاً) أي تضمهم فی الحالین کفت الشیء یکفته کفتاً و کفاتاً إذا ضمه و قیل (کفاتاً) وعاء
و هذا کفته أي وعاؤه، و یقال کفیته أیضاً، و قال الشعبی و مجاهد: فظهرها للاحیاء و بطنها للأموات، و هو قول قتادة و نصب أحیاء و
أمواتاً علی الحال، و یجوز علی المفعول به، قال ابو عبیدة و غیره (کفاتاً) أي اوعیۀ یقال:
هذا النحی کفت هذا و کفیته.
و قوله (أَحْیاءً وَ أَمْواتاً) أي منه ما ینبت، و منه ما لا ینبت.
و قوله (وَ جَعَلْنا فِیها رَواسِیَ شامِخاتٍ) أي و جعلنا فی الأرض جبالا ثابتۀ
__________________________________________________
28 / 1) مر فی 6 )
ص: 229
عالیۀ، فالشامخات العالیات، شمخ یشمخ شمخاً، فهو شامخ، و منه شمخ بأنفه إذا رفعه کبراً، و جبل شامخ و شاهق و بازخ کله بمعنی
واحد و الرواسی الثوابت.
و قوله (وَ أَسْقَیْناکُمْ ماءً فُراتاً) أي و جعلنا لکم شراباً من الماء الفرات، و هو العذب و هو صفۀ یقال: ماء فرات و ماء زلال و ماء غدق و
ماء نمیر کله من العذوبۀ و الطیب، و به سمی النهر العظیم المعروف بالفرات قال الشاعر:
«1» إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا و إن شهد أجدي فضله و جداوله
و قال ابن عباس أصول الأنهار العذبۀ أربعۀ: جیحان و منه دجلۀ، و سیحان نهر بلخ، و فرات الکوفۀ، و نیل مصر. و قوله (وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ
لِلْمُکَذِّبِینَ) قد فسرناه.
قوله تعالی: [سورة المرسلات ( 77 ): الآیات 29 الی 40 ] ..... ص: 229
اشارة
صفحۀ 125 من 233
انْطَلِقُوا إِلی ما کُنْتُمْ بِهِ تُکَ ذِّبُونَ ( 29 ) انْطَلِقُوا إِلی ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ( 30 ) لا ظَلِیلٍ وَ لا یُغْنِی مِنَ اللَّهَبِ ( 31 ) إِنَّها تَرْمِی بِشَرَرٍ
( کَالْقَصْرِ ( 32 ) کَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ( 33
وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 34 ) هذا یَوْمُ لا یَنْطِقُونَ ( 35 ) وَ لا یُؤْذَنُ لَهُمْ فَیَعْتَذِرُونَ ( 36 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَ ذِّبِینَ ( 37 ) هذا یَوْمُ الْفَصْ لِ
( جَمَعْناکُمْ وَ الْأَوَّلِینَ ( 38
( فَإِنْ کانَ لَکُمْ کَیْدٌ فَکِیدُونِ ( 39 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 40
اثنتا عشرة آیۀ.
__________________________________________________
194 / 1) مر فی 4 )
ص: 230
قرأ رویس (انطلقوا إلی ظل) علی فتح اللام بلفظ الماضی. و قرأ اهل الکوفۀ إلا أبا بکر (جمالۀ) و ضم الجیم یعقوب، الباقون
(جمالات) من قرأ (جمالۀ) علی لفظ الواحد قال معناه الجمع لقوله (صفر) و من قرأ (جمالات) بکسر الجیم قال: جمالۀ و جمالات
جمیعاً جمعان، کأنه جمع الجمع مثل: رجال و رجالات، و بیوت و بیوتات، و الهاء فی قوله (کأنه) کنایۀ عن الشرر.
و هذا حکایۀ ما یقول اللَّه تعالی للکفار المکذبین بیوم الدین یوم القیامۀ فانه یقول لهم (انْطَلِقُوا إِلی ما کُنْتُمْ بِهِ تُکَذِّبُونَ) من العقاب
علی الکفر و دخول النار جزاء علی المعاصی، فکنتم تجحدون ذلک و تکذبون به و لا تعترفون بصحته، فامضوا الیوم الیه. فالانطلاق
الانتقال من مکان إلی مکان من غیر مکث الاعتقال، و هو من الإطلاق خلاف التقیید، و الانتقال من حال إلی حال، و من اعتقاد إلی
اعتقاد لا یسمی انطلاقاً. ثم ذکر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق الیه، فقال (انْطَلِقُوا إِلی ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) قیل: معناه یتشعب من
النار ثلاث شعب: شعبۀ فوقه، و شعبۀ عن یمینه و شعبۀ عن شماله فیحیط بالکافر. و قال مجاهد و قتادة (ظل) دخان من جهنم ینقسم
أي من الدخان الآخذ بالانفاس (لا ظَلِیلٍ) معناه غیر مانع من الأذي یستر عنه، «1» ( ثلاث شعب کما قال تعالی (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
فالظلیل المانع من الأذي بستره عنه، و مثله الکنین، فالظلیل من الظلۀ، و هی السترة، و الکنین من الکن، فظل هذا الدخان لا یغنی
و الإغناء إیجاد الکفایۀ بما یکون وجود غیره و عدمه سواء یقال: « وَ لا یُغْنِی مِنَ اللَّهَبِ » الکفار من حر النار شیئاً. و بین ذلک بقوله
أغنی عنه أي کفی فی الدفع عنه. و اللهب ارتفاع الشرر، و هو اضطرام النار، التهب یلتهب التهاباً و ألهبتها إلهاباً و لهباً.
__________________________________________________
1) سورة 18 الکهف آیۀ 29 )
ص: 231
و هی قطع تطایر من النار فی الجهات و أصله الظهور من شررت الثوب إذا أظهرته للشمس و « تَرْمِی بِشَرَرٍ » یعنی النار « إِنَّها » و قوله
أي ذلک الشرر کالقصر أي مثله فی عظمه، و هو یتطایر علی الکافرین من کل جهۀ- « کَالْقَصْ رِ » الشرر یظهر متبدداً من النار. و قوله
نعوذ باللَّه منه- و القصر واحد القصور من البنیان- فی قول ابن عباس و مجاهد- و فی روایۀ أخري عن ابن عباس و قتادة و الضحاك:
القصر أصول الشجر واحدته قصرة مثل جمرة و جمر، و العرب تشبه الإبل بالقصور، قال الأخطل:
«1» کأنه برج رومی یشیده لزّ بجص و آجرّ و أحجار
قال الحسن و قتادة: کأنها أنیق « کَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُ فْرٌ » و القصر فی معنی الجمع إلا انه علی طریق الجنس. ثم شبه القصر بالجمال، فقال
سود، لما یعتري سوادها من الصفرة. و قال ابن عباس و مجاهد و سعید بن جبیر: قلوس السفن، و فی روایۀ أخري عن ابن عباس: هی
بالضم جمع جمالۀ و هو القلس من قلوس البحر، و یجوز أن یکون جمع (جمل) و جمالات، کما « جمالات » قطع النحاس. قال الزجاج
قیل (رحال) جمع (رحل) و من کسر فعلی انه جمع جمالۀ، و جمالۀ جمع جمل مثل حجر و حجارة، و ذکر و ذکارة. و قرئ فی الشواذ
صفحۀ 126 من 233
جمع جمل کرجل و رجالات، و بیت و بیوتات، و یجوز أن یکون جمع « و جمالات » بفتح الصاد جمع کأنها أعناق الإبل « کالقصر »
بغیر الألف علی التوحید لأنه لفظ جنس یقع علی القلیل و الکثیر. الباقون « جملۀ » جمالۀ. و قرأ حمزة و الکسائی و حفص عن عاصم
جمالات بألف، مکسور الجیم.
هذا یَوْمُ لا یَنْطِقُونَ » قد فسرناه ثم قال تعالی « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ » و قوله
__________________________________________________
53 / 1) مر فی 7 )
ص: 232
اخبار من اللَّه تعالی أن ذلک الیوم لا ینطق الکفار. « وَ لا یُؤْذَنُ لَهُمْ فَیَعْتَذِرُونَ
و قیل فی معناه قولان:
أحدهما- ..... ص: 232
ان ذلک الیوم مواطن، فموطن لا ینطقون، لأنهم مبلسون من هول ما یرونه، و موطن یطلق فیه عن ألسنتهم فینطقون، فلذلک حکی
و قد یقال هذا یوم لا ینطقون إذا لم «1» « قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَیْنِ وَ أَحْیَیْتَنَا اثْنَتَیْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلی خُرُوجٍ مِنْ سَبِیلٍ » عنهم أنهم
ینطقوا فی بعضه کما یقال: کان کذا یوم قدم فلان و إن کان قدم فی بعضه، لان المعنی مفهوم.
و الثانی- ..... ص: 232
انهم ینطقون بنطق لا ینتفعون به، و کأنهم لم ینطقوا، و أضاف الزمان إلی الأفعال کقولک أتیتک یوم قدم زید، و آتیک یوم یخرج
عمرو، و أجاز النحویون هذا یوم لا ینطقون بالنصب علی انه یشیر إلی الجزاء، و لا یشیر إلی الیوم
فالاذن الإطلاق فی الفعل، تقول: یسمع بالاذن فهذا أصله و قد کثر استعماله حتی صار کل دلیل ظهر به أن « وَ لا یُؤْذَنُ لَهُمْ » و قوله
للقادر أن یفعل کذا فهو أذن له، و کل ما اطلق اللَّه فیه بأي دلیل کان، فقد أذن فیه.
فالاعتذار الانتفاء من خلاف المراد بالمانع من المراد، و لیس لاحد عذر فی معصیۀ اللَّه، لأنه تعالی لا یکلف « فَیَعْتَذِرُونَ » و قوله تعالی
نفساً ما لا یطاق. و قد یکون له عذر فی معصیۀ غیره، لأنه قد یکلف خلاف الصواب و قد یکلف ما لا یمکن لعارض من الأسباب.
قال الفراء: تقدیره لا ینطقون و لا یعتذرون، و قد یجوز فی مثله النصب علی جواب « لا یؤذن » رفع عطفاً علی قوله « فیعتذرون » و قوله
النفی، و معنی الآیۀ لا یؤذن لهم فی الاعتذار فکیف یعتذرون.
__________________________________________________
1) سورة 40 المؤمن آیۀ 11 )
ص: 233
و قوله (هذا یَوْمُ الْفَصْ لِ) یعنی یفصل بین الخلائق بالحکم لکل أحد بما له و علیه. و الفصل قطع علق الأمور بتوفیۀ الحقوق، و هذا
الفصل الذي هو فصل القضاء یکون ذلک فی الآخرة علی ظاهر الأمر و باطنه، و أما فی الدنیا، فهو علی ظاهر الأمر، لان الحاکم لا
یعرف البواطن.
معناه إن اللَّه یجمع فیه الخلائق فی یوم واحد فی صعید واحد، و الجمع جعل الشیء مع غیره إما فی مکان « جَمَعْناکُمْ وَ الْأَوَّلِینَ » و قوله
واحد أو محل واحد أو فی یوم واحد أو وقت واحد، أو یجعل مع غیره فی حکم واحد أو معنی واحد کجمع الجماد و الحیوان فی
صفحۀ 127 من 233
معنی الحدوث.
معناه توبیخ من اللَّه تعالی و تقریع للکفار و اظهار عجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن « فَإِنْ کانَ لَکُمْ کَیْدٌ فَکِیدُونِ » و قوله
یکیدوا غیرهم، و إنما هو علی أنکم کنتم فی دار الدنیا تعملون ما یغضبنی، فالان عجزتم عن ذلک و حصلتم علی وبال ما عملتم. و
قد مضی تفسیره. « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ » قیل: المعنی إن کان لکم حیلۀ تحتالونها فی التخلص فاحتالوا. و الکید الحیلۀ و
قوله تعالی:[سورة المرسلات ( 77 ): الآیات 41 الی 50 ] ..... ص: 233
إِنَّ الْمُتَّقِینَ فِی ظِلالٍ وَ عُیُونٍ ( 41 ) وَ فَواکِهَ مِمَّا یَشْتَهُونَ ( 42 ) کُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِیئاً بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 43 ) إِنَّا کَذلِکَ نَجْزِي الْمُحْسِنِینَ
( 44 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 45 )
( کُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِیلًا إِنَّکُمْ مُجْرِمُونَ ( 46 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 47 ) وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ ارْکَعُوا لا یَرْکَعُونَ ( 48 ) وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ ( 49
( فَبِأَيِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ ( 50
ص: 234
عشر آیات.
لما ذکر اللَّه تعالی الکفار و ما أعدّ لهم من ضروب العقاب و انواع العذاب ترهیباً و تزهیداً فی مثله، ذکر المؤمنین المتقین للمعاصی و
و معناه الذین اتقوا عقاب اللَّه باجتناب معاصیه و طلبوا ثوابه « إِنَّ الْمُتَّقِینَ » بین ما أعده لهم من أنواع النعیم و ضروب اللذات، فقال
و هو جمع ظل، و هو الحجاب العالی المانع من کل أذي، فلأهل الجنۀ حجاب من کل أذي لان هواء الجنۀ « فِی ظِلالٍ » بفعل طاعاته
و هی ینابیع الماء التی تجري فی « وَ عُیُونٍ » مناف لکل أذي، فهم من طیبه علی خلاصۀ. و قیل فی ظلال من قصور الجنۀ و أشجارها
ظل الأشجار. و قیل: ان تلک العیون جاریۀ فی غیر أخدود، لأن ذلک أمتع بما یري من حسنه و صفائه علی کنهه من غیر ملابسۀ شیء
و هی جمع « وَ فَواکِهَ » له، و لیس هناك شیء إلا علی أحسن صفاته، لان اللَّه تعالی قد شوق الیه أشد التشویق و رغب فیه أتم الترغیب
فاکهۀ، و هی ثمار الأشجار التی من شأنها أن تؤکل، و قد یکون من الثمر ما لیس کذلک کالثمر المر، فانه لیس من الفاکهۀ.
یعنی لهم فاکهۀ من جنس ما یشتهونه. « مِمَّا یَشْتَهُونَ » و قوله
صورته صورة الأمر و المراد به الاباحۀ. و قال قوم: هو أمر علی الحقیقۀ، لان اللَّه « کُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِیئاً بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » ثم قال تعالی
تعالی یرید منهم الأکل و الشرب فی الجنۀ، و إنهم إذا علموا ذلک زاد فی سرورهم، فلا تکون إرادته لذلک عبثاً، و الهنیء هو الذي
لا أذي فیه فیما بعد. و قیل: الهنیء النفع الخالص من شائب الأذي، و الشهوة معنی فی القلب إذا صادفت المشتهی کان لذة، و ضده
النفار إذا ص: 235
مقابل أهل « إِلی ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِیلٍ وَ لا یُغْنِی مِنَ اللَّهَبِ » صادفه کان ألماً، و جاء الکلام علی التقابل للکافرین من قوله
اخبار منه تعالی أنه کما جازي هؤلاء المتقین بما ذکره « إِنَّا کَذلِکَ نَجْزِي الْمُحْسِنِینَ » الجنۀ فی ظلال قصور الجنۀ و أشجارها و قوله
من النعیم مثل ذلک یجازي کل محسن عامل بطاعۀ اللَّه. و فی ذلک دلالۀ علی أن کل احسان خالص للعبد فله به الثواب و الحمد، و
قد مضی تفسیره. « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ » انه طاعۀ للَّه، و إن ما لیس بإحسان من فعل خارج عن هذا الحکم. و قوله
فی دار الدنیا و تلذذوا بما تریدون و انتفعوا بما « کُلُوا وَ تَمَتَّعُوا » ثم عاد الی خطاب الکفار فقال لهم علی وجه التهدید و الوعید
لان أیام الدنیا قلیلۀ، فالتمتع الحصول فی أحوال تلذ، تمتع تمتعاً و استمتع استمتاعاً و أمتعه غیره امتاعاً و التمتع و التلذذ « قَلِیلًا » تشتهون
واحد و نقیضه التألم.
اخبار منه تعالی للکفار بأنکم و إن تمتعتم قلیلا فی الدنیا فإنکم عصاة و کفار و مآلکم الی النار و عذابها، و « إِنَّکُمْ مُجْرِمُونَ » و قوله
وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ » الاجرام فعل ما یقطع المدح و یحصل بدله الذم، یقال: أجرم إجراماً و اجترم اجتراماً و تجرم علیه أي تطلب له الجرم
صفحۀ 128 من 233
بینا معناه. « لِلْمُکَذِّبِینَ
فالرکوع هو الانخفاض علی وجه الخضوع، و یعبر به عن نفس الصلاة و یقال: قد رکعت و « وَ إِذا قِیلَ لَهُمُ ارْکَعُوا لا یَرْکَعُونَ » و قوله
بقی علی رکوع أي صلاة و المراد به- هاهنا- الصلاة، و المعنی إن هؤلاء الکفار إذا دعوا إلی الصلاة لا یصلون لجهلهم بما فی
ذکره ابن عباس. و قال « یُدْعَوْنَ إِلَی السُّجُودِ فَلا یَسْتَطِیعُونَ » الصلاة من الخیر و البرکۀ. و قیل: انه یقال لهم ذلک فی الآخرة کما قال
، قتادة، یقال لهم ذلک فی الدنیا، فان الصلاة من اللَّه بمکان. و قال مجاهد: عنی بالرکوع- هنا- الصلاة التبیان فی تفسیر القرآن، ج 10
ص: 236
قد فسرناه، فکأنه قیل لهم یجب علیکم الرکوع بالخضوع للَّه فارکعوا فأخبر عنهم أنهم لا یرکعون « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَ ذِّبِینَ » و قوله
أمر من اللَّه تعالی، و لا یقال فیمن أمر بالشیء « ارْکَعُوا » و إلا فقوله « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ » تکذیباً بهذا الخبر، فلذلک قال عقیب ذلک
لیس علی وجه التکرار فی المعنی، لان معناه « وَیْلٌ یَوْمَئِذٍ لِلْمُکَذِّبِینَ » فلم یفعل انه کذّب، و قیل: إنّ ما تکرر فی هذه السورة من قول
ویل للمکذبین بما ذکره قبله من الاخبار، و قیل یرید أنه کذب بالمخبر الذي یلیه، و هو وجه القول الثانی و الثالث و الرابع إلی آخر
السورة، علی هذا المنهاج من أنه یلزمه الویل بالتکذیب بالذي یلیه و الذي قبله علی التفصیل لا علی الإجمال فی أنه لا یلزمه حتی
معناه إنه إذا أتی القرآن بأظهر البرهان و کفروا به فلیس ممن یفلح بالایمان بکلام « فَبِأَيِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ » یکذب بالجمیع. و قوله
غیره، لان من لم یؤمن بما فیه المعجزة الظاهرة و الآیۀ الباهرة لا یؤمن بغیره.
ص: 237
-78 سورة النبأ: ..... ص: 237
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و الضحاك و هی أربعون آیۀ فی الکوفی و المدنیین و احدي و أربعون فی البصري
[سورة النبإ ( 78 ): الآیات 1 الی 16 ] ..... ص: 237
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( عَمَّ یَتَساءَلُونَ ( 1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِیمِ ( 2) الَّذِي هُمْ فِیهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3) کَلاَّ سَیَعْلَمُونَ ( 4
( ثُمَّ کَلاَّ سَیَعْلَمُونَ ( 5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ( 6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً ( 7) وَ خَلَقْناکُمْ أَزْواجاً ( 8) وَ جَعَلْنا نَوْمَکُمْ سُباتاً ( 9
وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِباساً ( 10 ) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً ( 11 ) وَ بَنَیْنا فَوْقَکُمْ سَبْعاً شِداداً ( 12 ) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ( 13 ) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ
( ماءً ثَجَّاجاً ( 14
( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبا وَ نَباتاً ( 15 ) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً ( 16
ست عشرة آیۀ.
بالهاء، الباقون بلا هاء. « عم » وقف یعقوب علی
بالتاء علی الخطاب فیهما أي قل لهم ستعلمون عاقبۀ أمرکم. الباقون- بالیاء- علی الغیبۀ، و هو الأقوي « کلا ستعلمون » و قرأ ابن عامر
عَمَّ ص: 238 » لقوله
« یَتَساءَلُونَ
و لم یقل أنتم، و إن کانت التاء جائزة لان العرب تنتقل من غیبۀ إلی خطاب، و من خطاب إلی غیبۀ. « الَّذِي هُمْ فِیهِ مُخْتَلِفُونَ » و قوله
صفحۀ 129 من 233
قیل فی سبب نزول هذه الآیۀ: إن رسول اللَّه صلی الله علیه و آله کان إذا حدّث قریشاً و عرّفهم أخبار الأمم السالفۀ و وعظهم کانوا
إلی قوله « وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَیْکُمْ فِی الْکِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آیاتِ اللَّهِ یُکْفَرُ بِها وَ یُسْتَهْزَأُ » یهزءون بذلک، فنهاه اللَّه تعالی أن یحدثهم فقال
فکان رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله یحدث أصحابه فإذا أقبل واحد من المشرکین أمسک «1» « حَ تَّی یَخُوضُوا فِی حَ دِیثٍ غَیْرِهِ »
فاجتمعوا علی بکرة أبیهم و قالوا: و اللَّه یا محمد إن حدیثک عجب، و کنا نشتهی أن نسمع کلامک و حدیثک، فقال إن ربی نهانی
« عَمَّ یَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِیمِ » أن أحدثکم، فأنزل اللَّه تعالی
أصله عن ما، فحذفت الألف لاتصالها بحرف الجر حتی صارت کالجزء منه لتدل علی شدة الاتصال مع تخفیف « عَمَّ یَتَساءَلُونَ » و قوله
المرکب فی الکلام، فحذف حرف الاعتلال و أدغمت النون فی المیم لقربها منها من غیر إخلال، و صورته صورة الاستفهام و المراد
معناه عن ما ذا یسأل بعضهم بعضاً، فالتساؤل سؤال احد النفیسین للآخر، تساءلا « یَتَساءَلُونَ » تفخیم القصۀ و الإنکار و التهدید. و قوله
تساؤلا و سأله مسألۀ، و السؤال طلب الاخبار بصیغۀ مخصوصۀ فی الکلام، و کل ما یزجر العقل عنه بما فیه من الداعی الی الفساد لا
یجوز السؤال عنه کسؤال الجدل لدفع الحق و نصرة الباطل، و کالسؤال الذي یقتضی فاحش الجواب، لأنه کالامر بالقبیح. و النبأ معناه
الخبر العظیم الشأن کمعنی الخبر عن التوحید فی صفۀ الاله و صفۀ الرسول، و الخبر عما یجوز علیه و ما لا یجوز. و قال مجاهد: النبأ
العظیم الشأن القرآن، و قال قتادة و ابن زید:
هو السؤال عن البعث بعد الموت، لأنهم کانوا یجمعون علی التکذیب بالقرآن
__________________________________________________
1) سورة 4 النساء آیۀ 139 و قریب منه فی سورة 6 الانعام آیۀ 68 )
ص: 239
کَلَّا سَیَعْلَمُونَ ثُمَّ » قال قتادة: معناه الذي هم فیه بین مصدق و مکذب، فقال اللَّه سبحانه مهدداً لهم و متوعداً « الَّذِي هُمْ فِیهِ مُخْتَلِفُونَ »
و معنی (کلا) ردع و زجر، کأنه قال ارتدعوا و انزجروا لیس الأمر کما ظننتم. و قال قوم: معناه حقاً سیعلمون عاقبۀ « کَلَّا سَیَعْلَمُونَ
أمرهم و عائد الوبال علیهم. و قال الضحاك: معناه کلا سیعلم الکفار عاقبۀ تکذیبهم، و سیعلم المؤمنون عاقبۀ تصدیقهم. و قال قوم:
کلا سیعلمون ما ینالهم یوم القیامۀ من العذاب، ثم کلا سیعلمون ما ینالهم فی جهنم من العذاب، فلا یکون تکراراً.
و الاختلاف ذهاب کل واحد من النفیسین إلی نقیض ما ذهب الیه الآخر، یقال:
اختلفا فی المعنی فذهب أحدهما إلی کذا، و ذهب الآخر إلی کذا.
أي وطاء، و هو القرار المهیأ للتصرف فیه من غیر أذیۀ. « أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » ثم نبههم علی وجه الاستدلال علی صحۀ ذلک فقال
و قال قتادة: المهاد البساط و مهد الأرض تمهیداً مثل وطأه توطئۀ، لأن ذلک لا یقدر علیه غیر اللَّه، لأنه الذي یسکن الأرض حالا بعد
أي و جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لئلا تمید بهم، فالجبال جمع جبل، « وَ الْجِبالَ أَوْتاداً » حال حتی یمکن الاستقرار علیها و التصرف فیها
و هو بغلظه و ثقله یبلغ أن یکون ممسکاً للأرض عن أن تمید بثقله، فعلی ذلک دبره اللَّه، و ذکر العباد به و ما فیه من العبرة بعظمۀ من
یقدر علیه. و الوتد المسمار إلا أنه اغلظ منه، لذلک یقال: مسامیر العناء إذا دقت کالمسمار من الحدید فی القوة و الدقۀ، و لو غلظت
صارت أوتاداً فکذلک وصفت الجبال بأنها أوتاد للأرض إذ جعلت بغلظها ممسکۀ لها عن أن تمید باهلها.
أي اشکالا کل واحد یشاکل الآخر. و قیل: « وَ خَلَقْناکُمْ أَزْواجاً » و قوله
معناه ذکراً و أنثی حتی یصح منکم التناسل.
أي نعاساً فی أوله تطلب النفس الراحۀ به. ص: 240 « وَ جَعَلْنا نَوْمَکُمْ سُباتاً » و قوله
و قیل: معناه جعلنا نومکم راحۀ. و قیل: معناه جعلنا نومکم طویلا ممتداً تعظم به راحۀ أبدانکم و یکثر به انتفاعکم، و منه سبت من
الدهر أي مدة طویلۀ منه، و قال ابو عبیدة: معناه جعلنا نومکم سباتاً لیس بموت، و رجل مسبوت فیه روح، و السبات قطع العمل
صفحۀ 130 من 233
للراحۀ، و منه سبت أنفه إذا قطعه، و منه یوم السبت أي یوم قطع العمل للراحۀ علی ما جرت به العادة فی شرع موسی، و صار علماً علی
الیوم الذي بعد الجمعۀ بلا فصل.
فاللباس غطاء ساتر مماس لما ستر، فاللیل ساتر للاشخاص بظلمته مماس لها بجسمه الذي فیه الظلمۀ قال « وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِباساً » و قوله
الشاعر:
«1» فلما لبسن اللیل أو جن نصبت له من حذا آذانها و هی جنح
أي متصرفاً للعیش و العیش الانعاش الذي تبقی معه الحیاة علی حال الصحۀ عاش یعیش عیشاً و النهار اتساع « وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً »
الضیاء المنبث فی الآفاق و أصله من انهر الدم إذا وسع مجراه، و منه النهر و هو المجري الواسع من مجاري الماء، و منه الانتهار الاتساع
فی الاغلاظ، و فی خلق النهار تمکین من التصرف للمعاش و فی ذلک أعظم النعمۀ و اکبر الإحسان.
یعنی سبع سموات. و البناء جعل الطاق الأعلی علی الأدنی، فالسماء مبنیۀ کهیئۀ القبۀ مزینۀ « وَ بَنَیْنا فَوْقَکُمْ سَبْعاً شِداداً » و قوله
بالکواکب المضیئۀ، فسبحان الذي زینها و خلقها و بناها علی هذه الصفۀ لعباده. و إنما جعلها سبع سموات لما فی ذلک من الاعتبار
للملائکۀ، و لما فی تصور الطبقات من عظم القدرة، و هول تلک الأمور، و ما فیه من تمکین البناء حتی وقفت سماء فوق سماء،
فسبحان من یمسکها بما هو قادر علیها و مدبر لها.
__________________________________________________
3 / 1) الطبري 30 )
ص: 241
یعنی الشمس جعلها اللَّه سراجاً للعالم یستضیئون به، فالنعمۀ عامۀ لجمیع الخلق. و الوهاج الوقاد، و هو « وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً » و قوله
المشتعل بالنور العظیم و قال مجاهد و قتادة: یعنی وهاجاً متلألئاً.
قال ابن عباس و مجاهد و قتادة: یعنی الریاح، کأنها تعصر السحاب. و قیل هی السحاب تتحلب بالمطر. « وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ » و قوله
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبا وَ » فالثجاج الدفاع فی انصبابه کثج دماء البدن، یقال ثججت دمه أثجه ثجاً، و قد ثج الدم یثج ثجوجاً « ماءً ثَجَّاجاً » و قوله
أي « وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً » أي نخرج بذلک الماء حباً و هو کل ما تضمنه الزرع الذي یحصد. و النبات الکلأ من الحشیش و الزرع « نَباتاً
الاخلاط المتداخلۀ « الالفاف » لأن الشجر یجنها أي یسترها و « جَنَّاتٍ » بساتین ملتفۀ بالشجر یخرجها اللَّه تعالی لعباده بالمطر. و إنما قال
یدور بعضها علی بعض واحدها (لف) یقال: شجر ملتف و أشجار ملتفۀ. و المعانی الملففۀ المتداخلۀ باستتار بعضها ببعض حتی لا
تبین إلا فی خفی. و قیل: واحده لف و لفف. و قیل: فی واحده شجرة لفا، و شجر لف. و قال مجاهد و قتادة و ابن عباس: ألفافاً ملتفۀ.
و التقدیر فیه و یخرج به شجر جنات الفافاً ملتفۀ إلا انه حذف لدلالۀ الکلام علیه.
قوله تعالی: [سورة النبإ ( 78 ): الآیات 17 الی 30 ] ..... ص: 241
إِنَّ یَوْمَ الْفَصْ لِ کانَ مِیقاتاً ( 17 ) یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً ( 18 ) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَکانَتْ أَبْواباً ( 19 ) وَ سُیِّرَتِ الْجِبالُ فَکانَتْ
( سَراباً ( 20 ) إِنَّ جَهَنَّمَ کانَتْ مِرْصاداً ( 21
( لِلطَّاغِینَ مَآباً ( 22 ) لابِثِینَ فِیها أَحْقاباً ( 23 ) لا یَذُوقُونَ فِیها بَرْداً وَ لا شَراباً ( 24 ) إِلاَّ حَمِیماً وَ غَسَّاقاً ( 25 ) جَزاءً وِفاقاً ( 26
( إِنَّهُمْ کانُوا لا یَرْجُونَ حِساباً ( 27 ) وَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا کِذَّاباً ( 28 ) وَ کُلَّ شَیْءٍ أَحْصَیْناهُ کِتاباً ( 29 ) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِیدَکُمْ إِلاَّ عَذاباً ( 30
ص: 242
اربع عشرة آیۀ.
بغیر الف مثل (مزجین، « لبثین فیها » بالتخفیف أهل الکوفۀ إلا الأعشی و البرجمی. الباقون بالتشدید. و قرأ حمزة و روح « و فتحت » قرأ
صفحۀ 131 من 233
بألف علی اسم الفاعل، و هو الأجود، لأنه من (لبث) فهو (لابث) و حجۀ حمزة أنه مثل (طمع) و (طامع). و « لابثین » و فرهین) الباقون
مشددة. الباقون بالتخفیف، و هما لغتان. « غساقاً » اللبث البطیء. و قرأ أهل الکوفۀ إلا عاصماً عن المفضل
فالغساق صدید أهل النار- فی قول ابراهیم و قتادة و عکرمۀ و عطیۀ- و قال أبو عبیدة:
الغساق ماء و هو من الغسل أي سیال. و قال غیره: هو البارد. و قیل: المنتن.
أي جعله اللَّه « کانَ مِیقاتاً » یعنی یوم الدین و هو یوم القیامۀ الذي یفصل اللَّه فیه بالحکم بین الخلائق « إِنَّ یَوْمَ الْفَصْلِ » یقول اللَّه تعالی
وقتاً للحساب و الجزاء فالمیقات منتهی المقدار المضروب لوقت حدوث أمر من الأمور، و هو مأخوذ من الوقت، کما أن المیعاد من
الوعد، و المیزان من الوزن و المقدار من القدر. و المفتاح من الفتح.
فالنفخ إخراج ریح الجوف من الفم، و منه نفخ الزق، و النفخ فی البوق، و نفخ الروح فی البدن یشبه « یَوْمَ یُنْفَخُ فِی الصُّورِ » و قوله
بذلک، لأنها تجري فیه کما تجري الریح، یجري مجري الریح فی الشیء، و الصور قرن ینفخ فیه فی حدیث مرفوع عن النبی صلی اللَّه
علیه و آله ص: 243
فالفوج جماعۀ من جماعۀ. و الأفواج « فَتَأْتُونَ أَفْواجاً » و قال الحسن: هو جمع صورة. و به قال قتادة. و معناه: اذکر یوم ینفخ فی الصور
جماعات من جماعات، فالناس یأتون علی تلک الصفۀ الی أن یتکاملوا فی أرض القیامۀ. و کل فریق یأتی مع شکله. و قیل تأتی کل
أمۀ مع نبیها، فلذلک جاءوا أفواجاً أي زمراً.
معناه و شققت السماء، فکانت کقطع الأبواب. و قیل: صار فیها طرق و لم یکن کذلک قبل. « وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَکانَتْ أَبْواباً » و قوله
معناه زیلت الجبال عن أماکنها و أذهب بها حتی صارت کالسراب. « وَ سُیِّرَتِ الْجِبالُ فَکانَتْ سَراباً » و قوله
إخبار منه تعالی بأن جهنم تکون یومئذ مرصاداً. و المرصاد هو المعد لأمر علی ارتقابه الوقوع فیه، و « إِنَّ جَهَنَّمَ کانَتْ مِرْصاداً » و قوله
هو مفعال من الرصد.
و قیل: المعنی ذات ارتقاب لأهلها تراصدهم بنکالها. و الرصد عمل ما یترقب به الاختطاف.
أي مرجعاً، و هو الموضوع الذي یرجع الیه، فکأن « مَآباً » یعنی جهنم للذین طغوا فی معصیۀ اللّه و تجاوزوا الحد « لِلطَّاغِینَ » و قوله
المجرم قد کان باجرامه فیها ثم رجع الیها، و یجوز أن یکون کالمنزل الذي یرجع الیه.
أي دهراً طویلا. و قیل «1» « أَوْ أَمْضِ یَ حُقُباً » أي ماکثین فیها أزماناً کثیرة، و واحد الاحقاب حقب من قوله « لابِثِینَ فِیها أَحْقاباً » و قوله
واحده حقب، و واحد الحقب حقبۀ، کما قال الشاعر:
و کنا کندمانی جذیمۀ حقبۀ من الدهر حتی قیل لن یتصدعا
مع انهم مخلدون مؤبدون: لا انقضاء لها « لابِثِینَ فِیها أَحْقاباً » و إنما قال
__________________________________________________
1) سورة 18 الکهف آیۀ 61 )
ص: 244
« لابِثِینَ فِیها أَحْقاباً لا یَذُوقُونَ فِیها بَرْداً وَ لا شَراباً إِلَّا حَمِیماً وَ غَسَّاقاً » إلا انه حذف للعلم بحال أهل النار من الکفار بإجماع الأمۀ علیه
بلا الف استشهد فی تعدي (فعل) « لبثین » ثم یعذبون بعد ذلک بضرب آخر کالزقوم و الزمهریر و نحوه من أصناف العذاب. و من قرأ
بقول الشاعر:
«1» و مسحل سح عضاده سحج بسراتها ندب له و کلوم
و قال ابن عباس: الحقب ثمانون سنۀ. و قال الحسن: سبعون سنۀ. و قال قوم: هو اکثر من ذلک.
قال ابو عبیدة: البرد هاهنا النوم قال الکندي: « لا یَذُوقُونَ فِیها بَرْداً وَ لا شَراباً » و قوله
صفحۀ 132 من 233
فیصدنی عنها و عن قبلتها البرد
فالحمیم الحار الشدید « إِلَّا حَمِیماً وَ غَسَّاقاً » أي النوم، فکأنهم لا ینامون من شدة ما هم فیه من العذاب، و لا یجدون شراباً یشربوه
الحرارة و الغساق صدید أهل النار- فی قول إبراهیم و قتادة و عطیۀ و عکرمۀ- یقال: غسقت القرحۀ غسقاً إذا سال صدیدها، و کذلک
و الغاسق اللیل إذا لبس الأشیاء بظلمته، کأنه یسیل علیه بظلامه. و قال الحسن: «2» « وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ » الجروح، و منه قوله
الجنۀ و النار مخلوقتان فی الأیام الستۀ الأول، و هی الجنۀ التی سکنها آدم، و هی الجنۀ التی یسکنها المتقون فی الآخرة. ثم یفنیها اللَّه
لهلاك الخلائق. ثم یعیدها، فلا یفنیها أبداً. و قال قوم: هما مخلوقتان، و لا یفنیهما اللَّه. و قال آخرون: هما غیر مخلوقتین و الجنۀ التی
کان فیها آدم جنۀ أخري لیست جنۀ الخلد.
قال ابن عباس و مجاهد و الربیع و قتادة: معناه وافق « جَزاءً وِفاقاً » و قوله
__________________________________________________
7 / 1) تفسیر الطبري 30 )
2) سورة 113 الفلق آیۀ 3 )
ص: 245
الجزاء أعمالهم، فالوفاق الجاري علی المقدار، فالجزاء وفاق لأنه جار علی مقدار الاعمال فی الاستحقاق، و ذلک أنه یستحق علی
الکفر أعظم مما یستحق علی الفسق الذي لیس بکفر، و یستحق علی الفسق أعظم مما یستحق علی الذنب الصغیر.
أي لا یرجون المجازاة علی الأعمال و لا یتوقعونه- و هو قول الحسن و قتادة- و قیل: معناه إنهم « إِنَّهُمْ کانُوا لا یَرْجُونَ حِساباً » و قوله
کانوا: لا یرجون حسن الجزاء فی الحساب لتکذیبهم. فالرجاء التوقع لوقوع أمر یخاف ألا یکون، فهؤلاء کان یجب علیهم أن یتوقعوا
الحساب علی یقین أنه یکون، فلم یفعلوا الواجب فی هذا، و لا قاربوه لاعتقادهم أنه لا یکون فاللوم أعظم لهم و التقریع لهم أشد. و
قیل:
معنی لا یرجون لا یخافون کما قال الهذلی:
«1» إذا لسعته النحل لم یرج لسعها و حالفها فی بیت نوب عوامل
معناه جحدوا بآیات اللَّه و حججه، و لم یصدقوا بها. و إنما جاء المصدر علی فعال للمبالغۀ مع اجرائه « وَ کَ ذَّبُوا بِآیاتِنا کِذَّاباً » و قوله
علی نظیره الذي یطرد قبل آخره الف نحو الانطلاق و الاقتدار و الاستخراج و القتال و الکرام، و المصدر الجاري علی فعل التفعیل
نحو التکذیب و التحسین و التقدیم، و قد خرج التفعیل عن النظیر لما تضمن من معنی التکثیر، کما خرج التفاعل و المفاعلۀ للزیادة
علی أقل الفعل، فانه من اثنین. و مثل کداب، حملته حمالا و حرقته حراقاً.
معناه و أحصینا کل شیء أحصیناه فی کتاب، فلما حذف حرف الجر نصبه، و قیل: إنما نصبه لان « وَ کُلَّ شَیْءٍ أَحْ َ ص یْناهُ کِتاباً » و قوله
فی أحصیناه معنی کتبناه، فکأنه قال کتبناه کتاباً، و مثل کذبته کذاباً قصیته قصاء قال الشاعر:
__________________________________________________
187 / 491 و 8 / 3 و 7 /5 / 210 و 3 / 1) مر فی 2 )
ص: 246
«1» لقد طال ما ثبطتنی عن صحابتی و عن جوح قصاؤها من شقائیا
و الوجه فی إحصاء الأشیاء فی الکتاب ما فیه من الاعتبار للملائکۀ بموافقۀ ما یحدث لما تقدم به الإثبات مع أن تصور ذلک یقتضی
الاستکثار من الخیر و الاجتهاد فیه، کما یقتضی إذا قیل للإنسان ما تعمله فانه یکتب لک و علیک.
لان کل عذاب یأتی بعد الوقت الاول فهو « فَلَنْ نَزِیدَکُمْ إِلَّا عَذاباً » أي یقال لهؤلاء الکفار ذوقوا ما کنتم فیه من العذاب « فَذُوقُوا » و قوله
صفحۀ 133 من 233
زائد علیه.
قوله تعالی:[سورة النبإ ( 78 ): الآیات 31 الی 40 ] ..... ص: 246
( إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ مَفازاً ( 31 ) حَدائِقَ وَ أَعْناباً ( 32 ) وَ کَواعِبَ أَتْراباً ( 33 ) وَ کَأْساً دِهاقاً ( 34 ) لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً وَ لا کِذَّاباً ( 35
جَزاءً مِنْ رَبِّکَ عَطاءً حِساباً ( 36 ) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَیْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا یَمْلِکُونَ مِنْهُ خِطاباً ( 37 ) یَوْمَ یَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِکَۀُ
صَ  فا لا یَتَکَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ( 38 ) ذلِکَ الْیَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَ ذَ إِلی رَبِّهِ مَآباً ( 39 ) إِنَّا أَنْذَرْناکُمْ عَذاباً قَرِیباً
( یَوْمَ یَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ یَداهُ وَ یَقُولُ الْکافِرُ یا لَیْتَنِی کُنْتُ تُراباً ( 40
بالرفع محارب و ابو بکر، و « رب السموات » خفیفاً الکسائی « و لا کذاباً » أحدي عشرة آیۀ فی البصري و عشر آیات عند الباقین قرأ
جراً عن عاصم و ابن عامر و یعقوب و سهل. « الرحمن »
__________________________________________________
10 / 179 و الطبري 30 / 1) القرطبی 19 )
ص: 247
الذین « إِنَّ لِلْمُتَّقِینَ » لما ذکر اللَّه تعالی حال الکفار و ما أعده لهم من أنواع العقاب ذکر ما للمؤمنین المتقین لمعاصی اللَّه تعالی، فقال
و هو موضع الفوز بخلوص الملاذ. و أصل الفوز النجاة إلی حال السلامۀ و ،« مَفازاً » یتقون عقاب اللَّه باجتناب معاصیه و فعل طاعته
« حَ دائِقَ وَ أَعْناباً » السرور، و منه قیل للمهلکۀ مفازة علی وجه التفاؤل، لأنه قیل منجاة و قیل مفازاً منجی إلی مبرة. ثم بین ذلک فقال
فالحدائق جمع حدیقۀ، و هی البستان المحوط، و منه أحدق به حائطه. و الحدیقۀ الجنۀ المحوطۀ.
و منه أحدق القوم بفلان إذا أطافوا به، و سمیت الحدقۀ حدقۀ لما یحیط بها من جفنها و الأعناب جمع عنب، و هو ثمر الکرم قبل أن
یجف فإذا جف فهو الزبیب، و نظیره الرطب ثمر النخل قبل أن یصیر تمراً فإذا صار تمراً زال عنه اسم الرطب.
قال ابن عباس: الکواعب النواهد، و الکاعب الجاریۀ قد نهد ثدیاها، یقال: کعب ثدي الجاریۀ و نهد إذا ابتدأ « وَ کَواعِبَ أَتْراباً » و قوله
بخروج حسن.
و الاتراب جمع ترب، و هی التی تنشأ مع لدتها علی سن الصبی الذي یلعب بالتراب فکأنه قیل هم علی سنّ واحدة. قال قتادة: أَتْراباً
یعنی فی سن واحدة.
فالکأس الإناء إذا کان فیه شراب. و قیل الکأس أناء الخمر الذي یشرب منه، قال الشاعر: « وَ کَأْساً دِهاقاً » و قوله
«1» یلذه بکأسه الدهاق
فان لم یکن فیه الخمر لم یسم کأساً، و الدهاق ملأي بشدة الضغط، و الدهق شدة الضغط فی الکأس ملأي مترعۀ لیس فیها فرجۀ
لیستوفی حال اللذة. و قال قتادة:
دهاقاً مترعۀ، و قال مجاهد: معناه متتابعۀ علی شاربها مأخوذ من متابعۀ الشد فی الدهن.
__________________________________________________
[.....] 181 / 1) القرطبی 19 )
ص: 248
« کذاباً » أي و لا تکذیب بعضهم لبعض. و من قرأ « وَ لا کِذَّاباً » أي لا یسمعون فی الجنۀ کلاماً لا فائدة فیه « لا یَسْمَعُونَ فِیها لَغْواً » و قوله
بالتخفیف أراد مصدر کاذبه مکاذبۀ، و کذاباً قال الشاعر:
«1» فصدقتنی و کذبتنی و المرء ینفعه کذابه
صفحۀ 134 من 233
و قال الفراء: قال اعرابی فی طریق مکۀ: یا رب القصار أحب الیک أم الحلق یرید أقصر شعري أم احلق.
أي فعلنا بالمؤمنین المتقین ما فعلنا جزاء علی تصدیقهم باللَّه و نبیه، فالجزاء إعطاء المستحق بعمل « جَزاءً مِنْ رَبِّکَ عَطاءً حِساباً » و قوله
الطاعۀ أو المعصیۀ.
أي بحساب العمل کل إنسان علی قدر عمله من النبیین و الصدیقین و الشهداء و الصالحین، ثم سائر أخیار « عَطاءً حِساباً » و قوله
المؤمنین، و عند اللَّه المزید.
و قیل: معناه عطاء کافیاً من قولهم: أعطانی ما أحسبنی أي کفانی، و حسبک أي اکتف، و حسبی اللَّه أي کفانی اللَّه. و قال الحسن:
معناه إنه أعطاهم ذلک محاسبۀ.
من رفع استأنف الکلام و جعله مبتدأ. « رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ » و قوله
جراً بأنه نعته. و من رفع الرحمن و جر « الرَّحْمنِ » رب السموات، و جعل « مِنْ رَبِّکَ » خبره، و من جره رده علی قوله « الرَّحْمنِ » و قوله
الأول قطعه عن الاول و تقدیره: هو الرحمن. و المعنی إن الذي یفعل بالمؤمنین ما تقدم ذکره هو اللَّه رب السموات و الأرض و
و معناه لا یملکون أن یسألوا إلا فیما أذن لهم فیه، « لا یَمْلِکُونَ مِنْهُ خِطاباً » مدبرهما، و مدبر ما بینهما، و المصرف لهما علی ما یریده
و فی ذلک أتم التحذیر من الاتکال. و الخطاب توجیه الکلام إلی مدرك بصیغۀ مبینۀ «2» « لا یَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضی » کما قال
کاشفۀ عن المراد بخلاف صیغۀ الغائب عن الإدراك
__________________________________________________
425 / 390 و 9 / 1) مر فی 8 )
2) سورة 21 الأنبیاء آیۀ 28 )
ص: 249
علی طریقۀ أنت و بک. و الإضمار علی ثلاثۀ أضرب: إضمار المتکلم، و إضمار المخاطب و إضمار الغائب.
معناه اذکر یوم یقوم الروح، قال الضحاك و الشعبی: الروح هو جبرائیل علیه السلام و قال ابن « یَوْمَ یَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِکَ ۀُ » و قوله
مسعود و ابن عباس:
هو ملک من أعظم الملائکۀ خلقاً، و هو المروي فی أخبارنا.
و قال الحسن و قتادة: الروح بنو آدم. و قال ابن عباس: أرواح بنی آدم مع الملائکۀ فیما بین النفختین قبل رد الأرواح إلی الأجساد.
وَ قالَ » أي أذن اللَّه له فی الکلام « إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ » أي مصطفین لا یتکلم احد بشیء « وَ الْمَلائِکَ ۀُ صَ  فا لا یَتَکَلَّمُونَ » و قوله
و الصواب موافقۀ الغرض الحکمی کأنه إصابۀ ذلک الغرض الذي تدعو الیه الحکمۀ. و نقیضه الخطأ، و هو مخالفۀ الغرض « صَواباً
الحکمی و لما کانت الحکمۀ قد تدعو إلی أمر بأوکد مما تدعو إلی أمر، کدعائها إلی الفعل الأصلح، و الفعل الأدون، صح ان صوابا
أصوب من صواب.
الذي لا شک فی کونه و حصوله. « الْحَقُّ » یعنی الیوم الذي وصفه و أخبر عنه هو « ذلِکَ الْیَوْمُ » ثم قال
لأنه قادر « فَمَنْ شاءَ اتَّخَ ذَ » فیه دلالۀ علی أن العباد قادرون علی اتخاذ المآب و ترکه. و إنما قال « فَمَنْ شاءَ اتَّخَ ذَ إِلی رَبِّهِ مَآباً » و قوله
علیه و مزاح العلۀ فیه.
و المآب المرجع، و هو (مفعل) من آب یؤب أوبا. و قال سفیان: معناه مرجعا.
قال عبید:
«1» و کل ذي غیبۀ یؤوب و غائب الموت لا یؤوب
.__________________________________________________
صفحۀ 135 من 233
468 / 1) مر فی 6 )
ص: 250
« و قولهِنَّا أَنْذَرْناکُمْ عَذاباً قَرِیباً
معناه الاخبار من اللَّه تعالی أنه خوف عباده و أعلمهم المواضع التی ینبغی أن یحذروها. ثم بین ما یکون بعد ذلک فقالَوْمَ یَنْظُرُ الْمَرْءُ
« ما قَدَّمَتْ یَداهُ
« و معناه ینتظر جزاء ما قدمه، فان قدم طاعۀ انتظر الثواب، و إن قدم معصیۀ انتظر العقابَ یَقُولُ الْکافِرُ
« فی ذلک الیوما لَیْتَنِی کُنْتُ تُراباً
أي یتمنی أن لو کان ترابا لا یعاد و لا یحاسب لیتخلص من عقاب ذلک الیوم، لأنه لیس معه شیء یرجوه من الثواب. و قیل: ان اللَّه
یحشر البهائم و ینتصف للجماء من القرناء فإذا أنصف بینها جعلها ترابا، فیتمنی الکافر عند ذلک لو کان مثل أولئک ترابا. و قیل: هو
«1» « یا لَیْتَنِی لَمْ أُوتَ کِتابِیَهْ » مثل قوله
-79 سورة النازعات ..... ص: 250
اشارة
مکیۀ فی قول ابن عباس و الضحاك و هی ست و أربعون آیۀ فی الکوفی و خمس و أربعون فی البصري و المدنیین
[سورة النازعات ( 79 ): الآیات 1 الی 14 ] ..... ص: 250
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ( 1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ( 2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ( 3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ( 4
( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ( 5) یَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَۀُ ( 6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَۀُ ( 7) قُلُوبٌ یَوْمَئِذٍ واجِفَۀٌ ( 8) أَبْصارُها خاشِعَۀٌ ( 9
یَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِی الْحافِرَةِ ( 10 ) أَ إِذا کُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ( 11 ) قالُوا تِلْکَ إِذاً کَرَّةٌ خاسِرَةٌ ( 12 ) فَإِنَّما هِیَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ( 13 ) فَإِذا
( هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ( 14
__________________________________________________
1) سورة 69 الحاقۀ آیۀ 25 )
ص: 251
أربع عشرة آیۀ.
اتبع رؤس الآي نحو (الساهرة، و الحافرة) و من « ناخرة » بلا ألف من قرأ « نخرة » بألف، الباقون « عظاماً ناخرة » قرأ أهل الکوفۀ إلا حفصاً
قرأ نخرة- بلا ألف- قال لأنه الأکثر فی کلام العرب، و لما
« نخرة » روي عن علی علیه السلام انه قرأ
و قال النحویون: هما لغتان مثل باخل و بخل، و طامع و طمع. و قال الفراء النخرة البالیۀ و الناخرة المجوفۀ.
قسم من اللّه تعالی بهذه الأشیاء التی عددها. و قال قوم: تقدیره و رب النازعات و ما ذکر بعدها، لأنه لا یجوز « وَ النَّازِعاتِ » و قوله
الیمین إلا باللَّه تعالی.
و هو ترك الظاهر. و
صفحۀ 136 من 233
قد روینا عن أبی جعفر و أبی عبد اللَّه علیهما السلام أن للَّه تعالی أن یقسم بما یشاء من خلقه، و لیس لخلقه أن یقسموا إلا به.
و إنما کان کذلک، لأنه من باب المصالح التی یجوز أن تختلف به العبادات، و إنما جاز أن یقسم هو تعالی بما شاء من خلقه، للتنبیه
علی موضع العبرة فیه إذ القسم یدل علی عظم شأن المقسم به.
و معنی (النازعات) الملائکۀ تنزع الأرواح من الأبدان، فالنازعات الجاذبات الشیء من أعماق ما هو فیه. و قال الحسن و قتادة: هی
النجوم أي تنزع من أفق السماء إلی أفق آخر. و قال عطاء: هی القسی تنزع بالسهم. و قال السدي: هی النفوس تنزع بالخروج من
البدن. ص: 252
معناه إغراقاً أي ابعاداً فی النزع. « غَرْقاً » و قوله
قیل: هی الخارجات من بلد إلی بلد بعید الاقطار ینشط کما ینشط الوحش بالخروج من بلد إلی بلد. و « وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً » و قوله
الهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلی حال، قال هیبان بن قحافۀ:
«1» أمست همومی تنشط المناشطا الشام طوراً ثم طوراً واسطا
و قال ابن عباس: هی الملائکۀ أي تنشط بأمر اللَّه إلی حیث کان. و قال قوم: هو ملک الموت ینشط روحه من خلقه، و قال قوم: هی
النجوم تنشط من المشرق إلی المغرب. و قال عطاء: هی الوحش تنشط من بلد إلی بلد قال رؤیۀ:
تنشط منها کل معلاه الوهق یعنی بقر الوحش. قال الفراء: تنشط نفس المؤمن کما ینشط العقال من ید البعیر. قال ابن خالویه، و اکثر
ما سمعته أنشطته بالألف، قالوا: کأنه انشط من عقال. فإذا شددت الحبل فی ید البعیر قلت: نشطته و إذا حللته قلت أنشطته.
معناه المارات بغوص معظمها فی المائع و قد یکون ذلک فی الماء و قد یکون فیما جري مجراه، و ذلک « وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً » و قوله
کسبح دود الخل، و قد یکون السبح فی الهواء تشبیهاً بالماء. و قال مجاهد: السابحات الملائکۀ، لأنها تسبح فی نزولها بأمر اللَّه کما
یقال:
الفرس یسبح فی جریه إذا أسرع. و قال قتادة: هی النجوم أي تسبح فی فلکها.
و قال عطاء: هی السفن. و قال قوم: هو ملک الموت یقبض روح المؤمن وحده سهلا سرحاً کالسابح فی الماء.
یعنی الکائنات قبل غیرها علی معنی صفۀ من الصفات. و قال مجاهد: هی الملائکۀ، لأنها سبقت إلی طاعۀ « فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً » و قوله
اللَّه. و قال قوم: لأنها
__________________________________________________
284 / 190 و مجاز القرآن 2 / 1) القرطبی 19 )
ص: 253
تسبق الشیاطین إلی الوحی. و قال عطاء: هی الخیل السابقۀ. و قیل: هی النجوم- ذکره قتادة- أي یسبق بعضها بعضاً فی السیر.
قال ابن عباس و قتادة و عطاء بن السائب: هی الملائکۀ تدبر الأشیاء. و قیل: تدبیر الملائکۀ فی ما وکلت به « فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » و قوله
من الریاح و الأمطار و نحو ذلک من الأمور. و جواب القسم محذوف، کأنه قال: لیبعثن للجزاء و الحساب ثم بین أي وقت یکون
فالرجف حرکۀ الشیء من تحت غیره بتردید و اضطراب، و هی الزلزلۀ العظیمۀ « یَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَۀُ » الجزاء و الثواب و العقاب، فقال
رجف یرجف رجفا و رجفا و رجوفا، و أرجفوا إذا أزعجوا الناس باضطراب الأمور، کما ینزعج الذي یرجف ما تحته، و منه الرجفۀ و
هی الزعزعۀ الشدیدة من تحت ما کان من الحیوان. و قیل: ان الأرض مع الجبال تتزعزع.
و معناه تتبع الراجفۀ الرادفۀ أي تجیء بعدها، و هی الکائنۀ بعد الاول فی موضع الردف من الراکب، ردفهم الأمر « تَتْبَعُهَا الرَّادِفَۀُ » و قوله
ردفاً فهو رادف، و ارتدف الراکب إذا اتخذ ردیفاً. و قال الحسن و قتادة: هما النفختان: أما الاولی فتمیت الأحیاء، و أما الثانیۀ فتحی
الموتی بإذن اللَّه.
صفحۀ 137 من 233
أي کائنۀ علی الانزعاج و الاضطراب، و جفت تجف وجفاً و وجیفاً و أوجف فی السیر إذا أزعج الرکاب « قُلُوبٌ یَوْمَئِذٍ واجِفَۀٌ » و قوله
فیه. و قال ابن عباس:
أي خائفۀ. « واجِفَۀٌ » معنی
أي خاضعۀ ذلیلۀ من هول ذلک الیوم قال الشاعر: « أَبْصارُها خاشِعَۀٌ » و قوله
«1» لما اتی خبر الزبیر تهدمت سور المدینۀ و الجبال الخشع
حکایۀ عما قاله الکافرون « یَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِی الْحافِرَةِ » و قوله
__________________________________________________
369 / 209 و 8 ،152 / 204 و 7 ،312 / 1) مر فی 1 )
ص: 254
المنکرون للبعث و النشور، فإنهم ینکرون النشر و یتعجبون من ذلک، و یقولون علی وجه الإنکار أئنا لمردودون فی الحافرة. و قیل:
بمعنی مدفوق. و قال ابن عباس و السدي: الحافرة الحیاة الثانیۀ. «1» « ماءٍ دافِقٍ » حافرة بمعنی محفورة، مثل
و قیل: الحافرة الأرض المحفورة. أي نرد فی قبورنا بعد موتنا أحیاء؟! قال الشاعر:
«2» ا حافرة علی صلع و شیب معاذ اللَّه من جهل و عار
فالحافرة الکائنۀ علی حفر أول الکرة یقال: رجع فی حافرته إذا رجع من حیث جاء، و ذلک کرجوع القهقري، فردوا فی الحافرة أي
ردوا کما کانوا أول مرة، و یقال: رجع فلان علی حافرته أي من حین جاء. و قولهم: النقد عند الحافرة معناه إذا قال بعتک رجعت علیه
بالثمن. و قال قوم: معناه النقد عند حافر الدابۀ.
أي علی وجه الأرض، فالعرب تسمی وجه الأرض من الفلاة « فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » أي النفخۀ الثانیۀ « فَإِنَّما هِیَ زَجْرَةٌ واحِ دَةٌ » و قوله
ساهرة أي ذات سهر لأنه یسهر فیها خوفا قال أمیۀ بن أبی الصلت:
«3» و فیها لحم ساهرة و بحر و ما فاهوا به لهم مقیم
و قال آخر:
فإنما قصرك ترب الساهرة ثم تعود بعدها فی الحافرة
«4» من بعد ما کانت عظاماً ناخره
و قال الحسن و قتادة و مجاهد و الضحاك: الساهرة وجه الأرض. و قال قوم
__________________________________________________
1) سورة 86 الطارق آیۀ 8 )
19 / 195 و الطبري 30 / 2) تفسیر القرطبی 19 )
197 / 3) القرطبی 19 )
4) اللسان (نخر) )
ص: 255
نرد و نبعث. و العظام جمع عظم، و هی « أَ إِذا کُنَّا عِظاماً نَخِرَةً » أي من بطن الأرض إلی ظهرها. و قالوا أیضاً منکرین للبعث « بِالسَّاهِرَةِ »
مأخوذة من العظم و ذلک لعظم صلابتها و عظمها فی نفسها. و النخرة البالیۀ بما حدث فیها من التغییر و اختلال البنیۀ، جذع نخر إذا
کان بهذه الصفۀ، و إذا لم تختل بنیته لم یکن نخراً و إن بلی بالوهن و الضعف. و قیل: ناخرة مجوفۀ ینخر الریاح فیها بالمرور فی
جوفها و قیل: ناخرة و نخرة سواء، مثل ناخل و نخل، و نخرة أوضح فی المعنی، و ناخرة أشکل برءوس الآي. و قیل: نخرة بالیۀ مجوفۀ
صفحۀ 138 من 233
بالبلی.
فالکرة المرة من المرّ و هی الواحدة من الکر، کرّ یکر کرة، و هی کالضربۀ « قالُوا تِلْکَ إِذاً کَرَّةٌ خاسِرَةٌ » ثم حکی ایضاً ما قالوه، فإنهم
الواحدة من الضرب.
أي لا یجیء « کَرَّةٌ خاسِرَةٌ » و الخاسر الذاهب رأس ماله فتلک الکرة کأنه قد ذهب رأس المال منها، فکذلک الخسران. و إنما قالوا
منها شیء کالخسران الذي لا یجیء منه فائدة. و کأنهم قالوا: هو کالخسران بذهاب رأس المال، فلا یجیء به تجارة، فکذلک لا
علی ما تعدنا من العذاب. و قال الحسن: معناه کاذبۀ لیست کائنۀ. « تِلْکَ إِذاً کَرَّةٌ خاسِرَةٌ » یجیء بتلک الکرة حیاة. و قیل معنا
قوله تعالی:[سورة النازعات ( 79 ): الآیات 15 الی 25 ] ..... ص: 255
هَلْ أَتاكَ حَدِیثُ مُوسی ( 15 ) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُويً ( 16 ) اذْهَبْ إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی ( 17 ) فَقُلْ هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی
( 18 ) وَ أَهْدِیَکَ إِلی رَبِّکَ فَتَخْشی ( 19 )
( فَأَراهُ الْآیَۀَ الْکُبْري ( 20 ) فَکَذَّبَ وَ عَصی ( 21 ) ثُمَّ أَدْبَرَ یَسْعی ( 22 ) فَحَشَرَ فَنادي ( 23 ) فَقالَ أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلی ( 24
( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَکالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولی ( 25
ص: 256
احدي عشرة آیۀ.
مشددة الزاي بمعنی تتزکی، « تزکی » منونۀ. و قرأ نافع « طوي اذهب » غیر منونۀ. الباقون « طوي اذهب » قرأ ابن کثیر و ابو عمرو و نافع
فأدغم التاء فی الزاي. الباقون خفیفۀ الزاي، فحذفت احدي التاءین. قال ابو عمرو:
یقال: تزکی مشدداً إذا أردت تتصدق، و لم یدع موسی فرعون إلی ان یتصدق، و هو کافر. و إنما قال له هل لک ان تصیر زاکیاً، قال:
فالتخفیف هو الاختیار.
و من نون (طوي) جعله اسم واد، و من لم ینون جعله اسم الأرض، لأنه معدول من (طاو). و من کسر الطاء قال: قدس مرتین، و تبین
فیه البرکۀ مرتین، مثل ثنی و عدي.
فلفظه لفظ الاستفهام و المراد « حَدِیثُ مُوسی » یا محمد « هَلْ أَتاكَ » هذا خطاب من اللَّه تعالی لنبیه محمد صلی اللَّه علیه و آله یقول له
فالنداء الدعاء علی طریقۀ یا فلان، و الندا مدّ الصوت بندائه، فمعنی « بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُويً » أي حین ناداه اللَّه « إِذْ ناداهُ رَبُّهُ » به التقریر
قال له یا موسی. ثم أمره بالذهاب إلی فرعون الطاغی و (الوادي المقدس) یعنی المطهر و (طوي) قال مجاهد و قتادة: واد، و « ناداهُ »
بکسر الطاء. و قیل طوي بالبرکۀ و التقدیس بندائه مرتین، قال طرفۀ بن العبد: « طوي » قیل طوي التقدیس. و قرأ الحسن
«1» أعاذل إن اللوم فی غیر کنهه علی طوي من غیک المتردد
أي اللوم المکرر، و (طوي) غیر مصروف، لأنه اسم البقعۀ من الوادي
__________________________________________________
165 / 1) مر فی 7 )
ص: 257
و هو معرفۀ، و یجوز أن یکون معدولا من (طاوي) فی قول الزجاج.
اخبار من اللَّه- عز و جل- عن حال فرعون بأنه طغی، و معناه تجاوز الحد فی الاستعلاء، و التمرد « اذْهَبْ إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی » و قوله
و الفساد، یقال طغی یطغی طغیاناً فهو طاغ، و نظیره البغی، بغی علی الناس یبغی بغیاً فهو باغ و هم البغاة و الطغاة، و نظیر الطغیان
العدوان، و هو المجاوزة لحد الصغیرة، و کل من طغی فقد عتا و اعتدي.
صفحۀ 139 من 233
علی وجه التلطف فی « قل » أي ادعوه إلی اللَّه و طریق الجنۀ، و « فَقُلْ هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی » ثم ذکر ما أمره أن یقول له بأن قال
و تطهر من المعاصی، فالتزکی طلب الطالب أن یصیر زاکیاً، تزکی یتزکی تزکیاً، و الزاکی النامی فی « هَلْ لَکَ إِلی أَنْ تَزَکَّی » الکلام
معناه و أهدیک الی طریق الحق الذي « وَ أَهْدِیَکَ إِلی رَبِّکَ فَتَخْشی » الخیر، و الزکاء النماء فی الخیر، و لو نمی فی الشر لم یکن زاکیاً
إذا سلکته وصلت إلی رضی اللَّه و ثوابه، فالهدایۀ الدالۀ علی طریق الرشد من الغی.
فالخشیۀ توقع المضرة من غیر قطع بها لا « فَتَخْشی » و قد یکون دلالۀ علی معنی لیس برشد و لا غی کالدلالۀ علی الحرکۀ فقط. و قوله
محالۀ، و الخشیۀ و الخوف و التقیۀ نظائر، یقال: خشی یخشی خشیۀ، فهو خاش، و ذاك مخشی. و فی الکلام حذف و تقدیره فأتاه
حکایۀ عن فرعون أنه کذب موسی فی ما دعاه الیه و جحد نبوته و عصاه فی ما « فَکَذَّبَ وَ عَصی » و قوله « فَأَراهُ الْآیَۀَ الْکُبْري » فدعاه
أي ولی فرعون الدبر بعد ذلک، فالادبار تولیۀ الدبر، و نقیضه الإقبال و أقبل فلان إذا استقامت له « ثُمَّ أَدْبَرَ یَسْعی » أمره به من طاعۀ اللَّه
الأمور علی المثل أي هو کالمقبل إلی الخیر، و أدبر فلان إذا اضطربت علیه حاله، ففرعون ولی الدبر لیطلب ما یکسر به حجۀ التبیان
فی تفسیر القرآن، ج 10 ، ص: 258
موسی علیه السلام فی الآیۀ الکبري، و هی المعجزة العظیمۀ، فما ازداد إلا غوایۀ، لأنه لا یقاوم الضلال الحق.
فالسعی الاسراع فی المشی، و فی إدباره یسعی فی هذه الحال دلیل علی خوفه. و قیل: إنه لما رأي العصا « ثُمَّ أَدْبَرَ یَسْعی » و قوله
انقلبت حیۀ فی عظمها خاف منه، فأدبر یسعی.
فالحشر الجمع من کل جهۀ، و قد یکون الجمع بضم جزء إلی جزء، فلا یکون حشراً، فإذا جمع الناس من کل « فَحَشَرَ فَنادي » و قوله
جهۀ، فذلک الحشر، و لهذا سمی یوم الحشر. و الحاشر الذي یجمع الناس من کل جهۀ الی الخراج، و إنما طلب السحرة، فلما اجتمعوا
فالأعلی المختص بعلو معنی صفته علی غیره مما لا یناله بکید و ینال هو به، و من هنا خرج بالغلو « أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلی » ناداهم فقال لهم
الی التعظیم، و لم یکن مثل ذلک فی جهۀ من الجهات، و کأنه قال: أنا الذي أنال بالضرر من شئت و لا ینالنی غیري. و کذب- لعنه
هاهنا قال: یا معشر الناس أنا ربکم الأعلی، إذ نادي بهذا القول. و « نادي » اللَّه- إنما هذه صفۀ الذي خلقه و خلق جمیع الخلق، و معنی
ذکره ابن عباس و مجاهد و الشعبی و « أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلی » و قوله الآخر هذا «1» « ما عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرِي » قیل: کلمته الاولی
الضحاك.
ثم حکی تعالی ما عامله به من العقاب فقال (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَکالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولی) فالنکال عقاب بنکل من الاقدام علی سببه بشدته، نکل
به تنکیلا إذا شوه به فی عقابه بما یکون زاجراً لغیره عن مثل حذیه أشد الزجر الذي یزعج النفس. و قال الحسن و قتادة: معناه عذاب
الدنیا و عذاب الآخرة. و قال مجاهد: أول عمله و آخره و قال بعضهم: نکاله فعلته الأولی، و هو قوله (ما عَلِمْتُ لَکُمْ مِنْ إِلهٍ غَیْرِي)
__________________________________________________
1) سورة 28 القصص آیۀ 38 )
ص: 259
و فعلته الأخیرة هو قوله (أَنَا رَبُّکُمُ الْأَعْلی) و قال قوم: معناه نکال الدنیا بالغرق و نَکالَ الْآخِرَةِ ما صار الیه بعد الموت من العقاب. و قال
الحسن (الْآیَۀَ الْکُبْري) الید البیضاء. و قال غیره: قلب العصا حیۀ.
قوله تعالی:[سورة النازعات ( 79 ): الآیات 26 الی 33 ] ..... ص: 259
إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَةً لِمَنْ یَخْشی ( 26 ) أَ أَنْتُمْ أَشَ دُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها ( 27 ) رَفَعَ سَمْکَها فَسَوَّاها ( 28 ) وَ أَغْطَشَ لَیْلَها وَ أَخْرَجَ ضُ حاها
( 29 ) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها ( 30 )
( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها ( 31 ) وَ الْجِبالَ أَرْساها ( 32 ) مَتاعاً لَکُمْ وَ لِأَنْعامِکُمْ ( 33
صفحۀ 140 من 233
ثمان آیات.
یقول اللَّه تعالی بعد ما ذکر ما تقدم من قصۀ موسی و فرعون و ما فعله الله بقوم فرعون من الإهلاك و الدمار (إِنَّ فِی ذلِکَ لَعِبْرَةً)
یعنی فیما قصه و اخبر به دلالۀ یمکن أن یعتبر بها العامل العاقل، فیعرف الحق و یمیز بینه و بین الباطل، یقال: اعتبرته اعتباراً و عبرة، و
منه العبارة لأنه یعبر بالمعنی فیها الی نفس المخاطب للافهام، و منه عبور النهر و تعبیر الرؤیا بإخراج ما فیها بعبورها المعنی إلی النفس
السائلۀ عنها.
و قوله (لِمَنْ یَخْشی) إنما خص من یخشی بالعبرة، لأنه الذي یعتبر بها و ینتفع بالنظر فیها دون الکافر الذي لا یخشی عذاب الله، کما
.«1» ( قال (هُديً لِلْمُتَّقِینَ
__________________________________________________
1) سورة 2 البقرة آیۀ 2 )
ص: 260
ثم خاطب الکفار الجاحدین بالله تعالی علی وجه التبکیت لهم و التوبیخ (أَ أَنْتُمْ أَشَ دُّ خَلْقاً) و معناه أ أنتم أشد أمراً بصغر حالکم (أَمِ
السَّماءُ) فی عظم جرمها و شأنها فی وقوفها و سائر نجومها و أفلاکها. قال بعض النحویین (بناها) من صلۀ السماء.
و المعنی أم التی بناها. و قال آخرون (السماء) لیس مما یوصل، و لکن المعنی أ أنتم أشد خلقاً أم السماء أشد خلقاً. ثم بین کیف
خلقها فقال (بناها) و الله تعالی لا یکبر علیه خلق شیء أشد من خلق غیره، و إنما أراد أنتم أشد خلقاً عندکم و فی ظنکم مع صغرکم
أم السماء مع عظمها و شدة إحکامها؟ و بین انه تعالی بنی السماء و (رَفَعَ سَمْکَها) یعنی ارتفاعها، فالسمک مقابل للعمق، و هو ذهاب
الجسم بالتألیف فی جهۀ العلو، و بالعکس منه العمق. و الطول ذهاب الجسم فی جهۀ الطول. و العرض ذهابه فی جهۀ العرض، و هو
بالاضافۀ الی ما یضاف الیه.
و قوله (فَسَوَّاها) فالتسویۀ جعل أحد الشیئین علی مقدار الآخر علی نفسه او فی حکمه، و کل ما جعل فی حقه علی ترتیبه مع غیره فقد
سوي، فلما کان کل شیء من السماء مجعولا فی صفۀ علی ترتیبه مع غیره کانت قد سویت علی هذا الوجه.
و قوله (وَ أَغْطَشَ لَیْلَها) قال ابن عباس و مجاهد و قتادة و الضحاك و ابن زید:
معناه اظلم لیلها. و قال ابو عبیدة: کل أغطش لا یبصر. و قال: لیلها أضاف الظلام الی السماء لان فیها ینشأ الظلام و الضیاء بغروب
الشمس و طلوعها علی ما دبرها الله.
و قوله (وَ أَخْرَجَ ضُحاها) قال مجاهد و الضحاك أخرج نورها.
و قوله (وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِکَ دَحاها) قال مجاهد و السدي: معناه دحاها مع ذلک، کما قال (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِکَ) أي مع ذلک. و قال ابن
عباس: ان الله دحا الأرض بعد السماء، و إن کانت الأرض خلقت قبل السماء، و معنا دحاها بسطحها دحا یدحو دحواً و دحیت ادحی
دحیاً لغتان، قال أمیۀ بن أبی الصلت: ص: 261
«1» دار دحاها ثم أعمر بابها و اقام بالأخري التی هی أمجد
و قال أوس بن حجر:
«2» ینفی الحصا عن جدید الأرض مبترك کأنه فاحص أو لاعب داح
یعنی المیاه التی تخرج من الأرض و فیها منافع جمیع الحیوان، و به قوام حیاتهم کما قال « ماءَها » یعنی من الأرض « أَخْرَجَ مِنْها » و قوله
أي و اخرج المرعی من الأرض، و هو النبات الذي یصلح أن ترعاه الماشیۀ، فهی « وَ مَرْعاها » «3» « وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ »
ترعاه بأن تأکله فی موضعه، رعت ترعی رعیاً و مرعی، و سمی النبات الذي یصلح أن یرعی به.
أي و اثبت الجبال فی الأرض. و الارساء الإثبات بالثقل، فالسفینۀ ترسو أي تثبت بثقلها، فلا تزول عن مکانها، « وَ الْجِبالَ أَرْساها » و قوله
صفحۀ 141 من 233
و ربما ارست بالبحر بما یطرح لها. فأما الجبال فإنها أوتاد الأرض، و أرسیت بثقلها، و فی جعلها علی الصفۀ التی هی علیها أعظم
العبرة.
أي خلقنا ما ذکرناه من الأرض و ما یخرج منها من المیاه و المراعی نفعاً و متعۀ تنتفعون بها معاشر « مَتاعاً لَکُمْ وَ لِأَنْعامِکُمْ » و قوله
الناس و ینتفع بها أنعامکم: الإبل و البقر و الغنم، ففی الأشیاء التی عددها أعظم دلالۀ و أوضح حجۀ علی توحید الله، لأن الأرض مع
ثقلها الذي من شأنه ان یذهب سفلا هی واقفۀ بإمساك الله تعالی، و هی علی الماء. و من شأن الماء أن یجري فی المنحدر، و هی
واقفۀ بإمساك الله تعالی فقد خرجت عن طبع الثقیل، و ذلک لا یقدر علیه غیر القادر لنفسه الذي یخترع
__________________________________________________
[.....] 26 / 1) تفسیر الطبري 30 )
230 / 2) دیوانه 16 و مقاییس اللغۀ 1 )
3) سورة 21 الأنبیاء آیۀ 30 )
ص: 262
الأشیاء اختراعاً، دون القادر بقدرة الذي لا یقدر أن یفعل فی غیره إلا علی وجه التولیۀ بأن یعتمد علیه، فدل ذلک علی ان الفاعل لهذه
الأشیاء لا یشبه الأشیاء و لا تشبهه. و فی إخراج الماء من الأرض عبر لا تحصی کثرة بما فیه من المنفعۀ، و ما له من المادة علی موضع
الحاجۀ، و سد الخلۀ مع ما فیه من المنفعۀ و التوفیق فی السیر الی المکان البعید بالسهولۀ، کل ذلک منّ اللّه تعالی به علی خلقه و أنعم
به علیهم.
نصب علی المفعول له، و تقدیره اخرج منها ماءها و مرعاها للامتاع لکم لان معنی أخرج منها ماءها و مرعاها أمتع « متاعاً » و قوله
بذلک.
قوله تعالی:[سورة النازعات ( 79 ): الآیات 34 الی 46 ] ..... ص: 262
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّۀُ الْکُبْري ( 34 ) یَوْمَ یَتَذَکَّرُ الْإِنْسانُ ما سَ عی ( 35 ) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِمَنْ یَري ( 36 ) فَأَمَّا مَنْ طَغی ( 37 ) وَ آثَرَ الْحَیاةَ
( الدُّنْیا ( 38
فَإِنَّ الْجَحِیمَ هِیَ الْمَأْوي ( 39 ) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَی النَّفْسَ عَنِ الْهَوي ( 40 ) فَإِنَّ الْجَنَّۀَ هِیَ الْمَأْوي ( 41 ) یَسْئَلُونَکَ عَنِ السَّاعَۀِ
( أَیَّانَ مُرْساها ( 42 ) فِیمَ أَنْتَ مِنْ ذِکْراها ( 43
( إِلی رَبِّکَ مُنْتَهاها ( 44 ) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ یَخْشاها ( 45 ) کَأَنَّهُمْ یَوْمَ یَرَوْنَها لَمْ یَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِیَّۀً أَوْ ضُحاها ( 46
ثلاث عشرة آیۀ.
بالتنوین. « إنما أنت منذر من یخشاها » قرأ ابو جعفر و عیاش عن أبی عمرو
فی موضع النصب. ص: 263 « من » الباقون علی الاضافۀ. و المعنی واحد. فمن نون جعل
و «1» « عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِیَتِهِمْ » فی الحال. و من اضافه استخف ذلک کما استخف فی قوله « منذراً » و إنما اختار ذلک، لأنه جعله
التنوین مقدر، لان المعنی إنه منذر فی الحال، و فیما بعد. و من أضاف جعلها فی موضع جر. و المنذر النبی صلی اللَّه علیه و آله قال
لِکُلِّ قَوْمٍ » قال قوم: المنذر النبی صلی اللَّه علیه و آله و الهادي علی علیه السلام، و قیل «2» « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ » الله تعالی
داع یدعوهم الی الحق. « هادٍ
قال ابن عباس: الطامۀ القیامۀ. و قال الحسن: الطامۀ هی النفخۀ « فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّۀُ الْکُبْري » یقول الله تعالی مهدداً للمکلفین من خلقه
الثانیۀ. و قیل: هی الصیحۀ التی تطمّ علی کل شیء، و هی الصیحۀ التی یقع معها البعث و الحساب و العقاب و الثواب. و قیل هی
صفحۀ 142 من 233
الطامۀ الغامرة الهائلۀ، و فی المثل: ما من طامۀ إلا و فوقها طامۀ قال الفراء: یقال: تطم علی کل شیء یطم. و قال قوم: الطامۀ الغامرة، لما
و « یَوْمَ یَتَذَکَّرُ الْإِنْسانُ ما سَ عی » یتدفق بغلظها و کثرتها. و قیل: هی الغاشیۀ المجللۀ التی تدفق الشیء بالغلظ. ثم بین متی مجیئها فقال
وَ» معناه تجیء الطامۀ فی یوم یتذکر الإنسان ما عمله فی دار التکلیف من خیر او شر و سعی فیه، و یعلم ما یستحقه من ثواب و عقاب
أي لمن یراها و یبصرها شاهداً، فالتبریز اظهار الشیء بمثل التکشیف الذي یقضی الیه بالاحساس، و یقال: « بُرِّزَتِ الْجَحِیمُ لِمَنْ یَري
فلان مبرز فی الفضل إذا ظهر به أتم الظهور، و بارز قرنه أي ظهر الیه من بین الجماعۀ.
بأن تجاوز الحد الذي حده اللَّه، و ارتکب المعاصی « فَأَمَّا مَنْ طَغی » ثم قسم احوال الخلق فی ذلک الیوم من العصاة و المطیعین، فقال
و الطغیان العصیان بمجاوزة الحد فیه الی الافراط فیه، فکل کافر طاغ بافراطه فی ظلم نفسه، و ظلم النفس کظلم غیرها فی التعاظم. و
معناه اختار منافع الحیاة الدنیا « وَ آثَرَ الْحَیاةَ الدُّنْیا » قوله
__________________________________________________
1) سورة 46 الأحقاف آیۀ 24 )
2) سورة 13 الرعد آیۀ 8 )
ص: 264
بارتکاب المعاصی و ترك ما وجب علیه، فالإیثار إرادة الشیء علی طریقۀ التفضیل له علی غیره، و مثله الاختیار، لأنه یختاره علی انه
خیر من غیره، فمن آثر الأدنی علی الاولی فهو منقوص بالحاجۀ، کما ان من آثر القبیح علی الحسن کان منقوصاً.
و قیل: المعنی من آثر نعیم الحیاة الدنیا علی نعیم الآخرة و الحیاة حیاتان: حیاة الدنیا و هی المنقطعۀ الفانیۀ، و حیاة الآخرة، و هی
الدائمۀ، فمن آثر الباقی الدائم علی الفانی المنقطع کان حسن الاختیار، و من آثر الفانی علی الباقی کان سیء الاختیار مقبحاً.
اي النار مثواه و مستقره و موضع مقامه. « فَإِنَّ الْجَحِیمَ هِیَ الْمَأْوي » ثم بین تعالی ما له فی الآخرة فقال
و معناه من خاف مقام مسألۀ ربه عما یجب فعله أو ترکه و عمل بموجب « وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ » ثم ذکر من هو بضد ذلک فقال
و ما تدعو الیه شهواته، فالهوي اریحیۀ فی النفس تدعو إلی ما لا « و نهی نفسه عن الهوي » ذلک بأن فعل الطاعۀ و أمتنع من المعصیۀ
یجوز فی العقل، فاتباع الهوي مذموم، و لیس یجوز أن یعمل شیئاً لداعی الهوي و إن عمل لداعی العقل علی موافقۀ الهوي لم یضره.
و قیل:
هم قوم صغرت الدنیا فی عینهم حین رأوا الآخرة- ذکره قتادة- و قیل: الزهد فی الدنیا، و الرغبۀ فی الاخرة هو التمسک بطاعۀ اللَّه و
اجتناب معصیته.
أي هی مقره و مأواه، فالالف و اللام تعاقب الضمیر « فَإِنَّ الْجَنَّۀَ هِیَ الْمَأْوي » ثم بین تعالی ما له فی مقابلۀ ذلک من الثواب، فقال
کقولهم مررت بحسن الوجه أي حسن وجهه. و قال الزجاج: تقدیره هی المأوي له و لا یکون بدلا من الهاء کما لا یکون بدلا من
الکاف فی قولک غض الطرف، قال: و قال الشاعر:
«1» فغض الطرف إنک من نمیر فلا سعداً بلغت و لا کلابا
__________________________________________________
341 / 1) مر فی 9 )
ص: 265
و یروي (فلا کعباً) و الجنۀ البستان الذي یجنه الشجر فجنۀ الخلد بهذه الصفۀ علی ما فیها من القصور و الابنیۀ الحسنۀ التی قد جمعت
کل تحفۀ و طرفۀ مما تشتهی الأنفس و تلذ الأعین، من غیر أذي ملحق بحال فی عاجل و لا آجل. و روي أن قصورها مبنیۀ بفاخر
الجوهر من الیاقوت و الزبرجد، و منه ما هو بلبنۀ من فضۀ و لبنۀ من ذهب، فتعظیم اللَّه لها و تشویقه الیها یدل علی أنها علی اجل حال
صفحۀ 143 من 233
تشتهی فیها مع أنه لا یتعاظم فی مقدور اللَّه- عز و جل-.
أي متی یکون قیامها علی ما وصفها ف (أیان) بمعنی « یَسْئَلُونَکَ عَنِ السَّاعَۀِ أَیَّانَ مُرْساها » ثم خاطب النبی صلی اللَّه علیه و آله، فقال
(متی) الا أن (متی) أکثر استعمالا فی السؤال عن الزمان و نظیرها (أین) فی السؤال عن المکان. و لذلک فسرت (أیان) ب (متی) و
و یجوز أن یکون المراد بالمرسی « أرساها » الارساء الثبوت من قولهم: رست السفینۀ ترسو رسوا فهی راسیۀ إذا ثبتت و منه. قوله
المصدر.
و یجوز أن یکون وقت الارساء و المعنی متی ثبت أمرها بقیامها.
أي انه لیس عندك علم متی تکون، و إنما عندك علم أنها تکون- ذکره الحسن- و قال غیره: هی « فِیمَ أَنْتَ مِنْ ذِکْراها » و قوله
أي قل لهم إلی اللَّه تعالی إجراؤها، فالمنتهی « إِلی رَبِّکَ مُنْتَهاها » حکایۀ قولهم، أي قد أکثرت من ذکرها، فمتی تکون؟. و قوله
موضع بلوغ الشیء، و کأنه قیل: إلی ربک منتهی أمرها بإقامتها لان منتهی أمرها بذکرها و وصفها و الإقرار بها إلی الرسول بإقامتها، و
منتهی أمرها إقامتها إلی اللَّه تعالی لا یقدر علیه إلا اللَّه تعالی. و قیل: المعنی إلی ربک منتهی علمها أي لا یعلم إلا هو متی وقت
قیامها- ذکره الحسن-.
خطاب من اللَّه للنبی صلی الله علیه و آله بأنه إنما ص: 266 « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ یَخْشاها » و قوله
یخوف من یخاف ذلک الیوم و هو یوم القیامۀ، و إنما خص الانذار بمن یخشی، لأنه لما کان المنتفع بالإنذار من یخشی فکأنه خص
بالإنذار. و الکافر لما لم ینتفع بذلک فکأنه لم ینذر أصلا.
و قال قتادة: معناه إنهم إذا رأوا « کَأَنَّهُمْ یَوْمَ یَرَوْنَها لَمْ یَلْبَثُوا إِلَّا عَشِیَّۀً أَوْ ضُ حاها » ثم بین تعالی سرعۀ مجیئها و قرب حضورها فقال
الآخرة صغرت الدنیا فی أعینهم حتی کأنهم لم یقیموا بها إلا مقدار عشیۀ أو مقدار ضحاها یعنی ضحی العشیۀ. و أضیف الضحی إلی
العشیۀ، و ضحوة الضحی الیوم الذي یکون فیه، فإذا قلت أتیتک صباحاً و مساء، فالمعنی أتیتک العشیۀ أو غداتها، قال الفراء: و
انشدنی بعض بنی عقیل:
نحن صبحنا عامراً فی دارها عشیۀ الهلال أو سرارها
«1» قبل اصفرار الشمس و احمرارها
أراد عشیۀ الهلال أو عشیۀ سرار العشیۀ فهذا أشد من ذلک.
__________________________________________________
28 / 208 و الطبري 30 / 1) القرطبی 19 )
ص: 267
-80 سورة